السياحة الدينية و اقتصاد الرعب

عشنا هذه الأيّام على وقع الاحتفالات بحجّ اليهود لمعبد الغريبة في جزيرة جربة، كما هو جاري الآن تحضيرات الحجيج المسلمين إلى السعودية في الأسابيع القادمة. هناك من ما زال يصدّق أنّ هذه المناسك هي كلّها لوجه الربّ ابتغاءً لمرضاته و تكفيرا عن ذنوب النفس و العالم. فالمسألة في سياسات الدول تتجاوز البعد الروحاني و النَسكي و التعبّدي لتدخل مرحلة  الربح و الخسارة، العرض و الطلب  في إطار منظومة اقتصادية و خدماتية و تجارية صاعدة و نازلة… و أحيانا مُرعبة و الغبّي من لا يتفادى النزول. (الصورة : معبد الغريبة اليهودي بجزيرة جربة).


بقلم ميلاد خالدي

السياحة الدينية…

أصبح الحجّ في العقود الأخيرة يدخل في باب السياحة الدينية بامتياز، فمرابيح المملكة العربية السعودية في قطاع الحج تُعدّ بالمليارات حيث تساهم بأكثر من 4 بالمائة من إجمالي الناتج القومي السعودي لسنة 2022 (15 مليار دولار)، إذ يُشكّل الحُجّاج والمعتمرون القسط الأكبر من زائري المملكة. ومن المنتظر زيادة النسبة لتصل إلى 20 مليار دولار في السنوات القليلة القادمة وهو ما يُعادل ميزانيات دول عربية و أفريقية.

في الأثناء لنا أن نتأمّل حجم الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة في مجال السياحة الدينية في كربلاء في العراق مثلا أو كومبه ميلا في الهند والفاتيكان في إيطاليا.

السياحة الدينية هي نعمة تتمتّع بها دول و تُحرم منها دول أخرى لعدّة اعتبارات تاريخية و روحية ومذهبية و ايديولوجية ضمن تراث لامّادي يظلّ محلّ تقديس الكثير من الشعوب و القبائل على مرّ التاريخ.

في المقابل، هناك دول كتونس مثلا تتوفّر لديها كلّ مقوّمات السياحة الدينية الواعدة و لا أدلّ على ذلك معبد الغريبة في جزيرة جربة الذي يُعتبر أقدم معبد يهودي بإفريقيا و الذي يعود حسب بعض المصادر إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، يعني قبل تواجد العرب و المسلمين. فمن يزور جزيرة جربة يلحظ أنّها لم يتغيّر فيها الكثير سوى زيادة عدد السلاسل الفندقية و الوحدات السياحية بصفة كميّة لا نوعية. ليس هذا هو المطلوب لتطوير السياحة الدينية في جربة طالما أننّا لم نقتنع بوجود شيء مختلف يستحقّ الالتفات و العناية و الدراسة.

الدولة الذكيّة هي التي تعمل على تطوير السياحة الدينية الذكية متماشية مع عصر التكنولوجيا والمعلومات، فالابتكار داخل الفضاء الديني مهمّ و مطلوب للخروج من بوتقة المزارات الدينية كمجرّد أبنية وجدران و أرشيف ومسلاّت و متاحف جامدة و مستهلكة. إنّه الدين الجديد الذي يجب أن ينبثق من التاريخ لكن تواصله نحو المستقبل المكاني هو عنوان تجدّده و بقائه. لكن يبقى كلّ ذلك رهين استتباب الآمن بعيدا عن كلّ أشكال الفوضى و الإرهاب، لأنّ الفوضى و الإرهاب يتوقّف عندهما كلّ شيء لينكمش كلّ شيء و ينحسر الكلّ في إطار “ترقّب حتى تمرّ العاصفة” فاقتصاد الرعب قاب قوسين أو أدنى.  

اقتصاد الرعب…

اقتصاد الرعب هو ذلك الصنف من الاقتصاد الذي يعيش في تبعية نشيطة و سلبية للظروف الأمنية و الصحية فأيّ عملية إرهابية أو بؤرة وباء هما رٌهاب يتمكّن من مفاصل الاقتصاد ويشلّه لأنّ السائح يمثّل استثمارا متنقّلا و عابرا للحدود و الحسابات البنكية و غيرها… ومن خاف نجا…

الدول التي تسمّي نفسها بالدول السياحية الصرفة دون أذرع اقتصادية أخرى هي دول متخلّفة، فدولة مثل جمهورية التشيك تستقطب سنويا ما يقارب الثلاثين مليون سائح وهي وجهة سياحية معتبرة لكنها في المقابل دولة صناعية و فلاحية صلبة دون منازع. إسبانيا هي الأخرى دولة سياحية بامتياز مع أنّها دولة رائدة في الصناعات العسكرية وتصنيع الأسلحة الخفيفة و الثقيلة. اقتصاد الرعب هو الاقتصاد الذي يتأثّر بالمزاج العّام و الصحّة العامة و المعنويات الشاملة. هنا أتحدّث عن  الإرهاب و الكورونا. أكبر تهديد لكيانات الشعوب و هو ما عشناه لسنوات ليست بالهيّنة. مع أنّ شبح الإرهاب ما زال قائما و ما عاشته جزيرة جربة منذ أيام مع الهجوم الإرهابي على معبد الغريبة يغني عن كلّ تحليل.

الحكومات التي تبني اقتصادياتها بالكامل على اقتصاد الرعب تختلّ موازينها و يتدحرج تصنيفها الائتماني والمالي لتقفز نسبة التضخم و البطالة لديها و تلج منطقة الركود و الكساد الاقتصادي. اقتصاد الرعب في علاقة جدلية ‘أفقية وعمودية’ مع الرعب ذاته حيث إنّه يسبّب الرُعب بالكيفية التي يصاب فيها هو بالرعب.

 لسائل أن يسأل من يتحكم في اقتصاد الرعب؟ و هل هناك جهات معينة  تتحكّم في “باراماترات” (paramètres) التشغيلّ؟ أم إنّ الأمر خيارات شعوب غبية و حكومات بالية ركيكة؟ إنّه زمن الغباء المُستدام و المسألة لا تعدو أن تكون جسّ نبض لحركة التمدّد و الامتداد و من لا يتمدّد يضمحلّ و يموت.

 لكن، هل يمكن للتكنولوجيا الحديثة و الذكاء الصناعي أن يُخفّفا عنّا وطأة اقتصاد الرعب؟ أم إنّ الأمر يتعدّى التكنولوجيا إلى سياسة الحكومات و الحُكّام الذين في أغلبهم محافظون رجعيون، لايريدون إحداث أيّ تغيير؟ أو في اعتقادهم أنّ من يحجّ هو بالضرورة متزمّت للتقاليد و للماضي و لا يجوز كسر عصا الطاعة لديه… حتى لا يُنعت بأنّه خارج “الملّة”… الذّكي الواعد هو من يخرج عن الملّة.

كاتب تونسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.