عينٌ مجرّدة على العمل البلدي في تونس

تعدّ المراهنة على مشاركة المواطنين لتسيير شؤونهم في جوهرها تغيّر حضاري وتثبيت لأسس الديمقراطية المحلية. وإذا كانت تجربتنا في تونس مع هذا التغيير الإيجابي تعود إلى سنة 1789 كمشيخة في العاصمة وإلى سنة 1858 كبلدية، وأن يبلغ عدد البلديات 350 حسب إحصائيات سنة 2014 مع إضافات لاحقة منذ ذلك التاريخ، فإنّ الواقع البلدي اليوم لا يعكس منهجية عمل اجتماعية بالتعاون مع المتساكنين ولا مستوى خدمات يُحسِّن من ظروف عيش المواطنين ويحافظ على وسط آمن وصحي وبيئي جيّد.

بقلم  العقيد محسن بن عيسى 

ماذا عن تقييم الأداء البلدي؟

الكثير يتابعون ما يجري داخل البلديات ويطالبون برفع الأداء العام أي أداء الأفراد والأداء المؤسسي.

هناك حالات إهمال، وتقصير، وإهدار للوقت، والموارد. وقد يُعْزَى ذلك إلى الثّبات النسبي في البرامج، والافتقار للإطارات المؤهلة، وعدم الشعور بالانتماء، وعدم وضوح الاختصاصات والمهام والمسؤوليات. إنّ أكبر سمة طبعت الإدارة التونسية بشكل عام والبلدية بشكل خاص البيروقراطية بمعناها السلبي.

البيروقراطية هي حكومة الموظفين، فغالبا ما تتجسد العراقيل والإجراءات الطويلة والمعقدة بسبب سلوك أعضاء المجلس البلدي والمكتب البلدي والموظفين أكثر من النصوص والقوانين. فالشغل الشاغل لهذه الفئة هو الاهتمام بموقعها في السلم الهرمي ومشاكلها الاجتماعية أكثر من خدمة المواطنين. وذلك لأنه بالأساس لم تتكون لديها أو لبعضها ثقافة خدمة المواطن. هكذا يلجأ البعض إلى دفع مبالغ “رشوة” أو البحث عن واسطة أو معارف مقابل خدمة معينة او أخذ موعد مع مسؤول.

هناك إجماع بين رجال الاختصاص على أنّ العنصر البشري هو العامل الحاسم والرئيسي في الإدارة البلدية على مستوى الإنتاج وتقديم الخدمات. حيث أصبح عمل المؤسسة يتوقف على هذا المتغيّر. ويتحدّد نجاح كل جانب من جوانب أنشطتها على كفاءة وفعالية مواردها البشرية. وليس اعتباطا أن تحولت “إدارة الأفراد” التي كانت تركز على الأمور الإجرائية في تسيير الموظفين، إلى “إدارة موارد بشرية” لتهتم بالجانب السلوكي والإداري معا مع وضع الطاقات البشرية في الإطار التنظيمي المناسب.

اطلعت في سياق معالجة هذا الموضوع على النتائج الأولية لتقييم أداء البلديات بعنوان سنة 2021 وفي مجالات تحسين الخدمات، والمشاركة والشفافية وتحسين الموارد، وقد كانت الأعداد متراوحة بين 91/100 و36/100. ولم نسمع استنتاجا يقول أنّ البلديات الصغرى كانت أفضل من البلديات الكبرى وأنّ الأعداد المسندة في تحسين الخدمات والموارد كانت متواضعة دون اعتبار البلديات ذات 0 معدل في الآداء.

كلام كثير عن سياسة التوظيف وشبهات الانتداب على أساس القرابة أو الولاء أو المقابل المادي بدل معايير الكفاءة والنزاهة. والأمر ينسحب على عملية الترقية والتحفيز، فضلا عن غياب التكوين.

البلديات تعجّ بالموظفين والمواطنين على حدّ سواء. فالمواطن يشتكي من رداءة الخدمات المقدمة، والموظف يشتكي ظروف العمل ووضعه الاجتماعي.

ضعف قيم الشراكة والمشاركة

المسالة تتعدى خطب الفاعلين البلديين وتركيزهم على الخدمات الإدارية وترتيب المناطق الترابية وتغطية الاحتياجات في الصحة، والأشغال، والثقافة، والرياضة. فالقضية تتمحور حول كيفية تعديل إيقاع العمل المحلي.

تتوسع المناشير والأدبيات في شرح التنظيم الإداري للبلديات ووظائفها في إطار ترتيبي وقانوني، ويغيب توصيف الأمم المتحدة والمنظمة العالمية للصحة “للبلدية ” ودورها خاصة في “الصحة التي تفيد الرفاهية الكاملة الجسدية والاجتماعية وتحسين نوعية الحياة”. يبدو أنّ هناك كثيرا من أنصاف الحقائق والتصورات الخاطئة تداهمنا حول العمل البلدي.

ولكن من الإنصاف أن نبيّن أنّ البلديات لا يمكن أن تعمل بمفردها، فمن شروط النجاح واستدامة المشاريع أن يتسم العمل بالمشاركة أي مجهود الأفراد معها ماديا ومعنويا وفكريا وبصورة تنظيمية. وأن يتم إنشاء آليات شراكة على معنى صيغة تعاونية بينها وبين مع مجموعة مؤسسات أو منظمات أو هيئات وعلى جبهة عريضة ومتنوعة من الاختصاصات وفي مختلف مراحل التدخلات والخدمات.

كلنا يتفق على أنّ المجتمع المحلي لا زال لدينا يبحث عن التماسك وقيم التعاون والمساعدة المتبادلة بالرغم من أنها سمات أساسية لتشكيله. فخلافا للمواطن الغربي الذي تعوّد على صيغ الشراكة والمشاركة وعاشها كواقع في حياته المدنية منذ الثورتين الأمريكية والفرنسية، لم تضف الثورة التونسية منذ 2011 للمواطن التونسي شيئا على هذا المستوى حيث لا زال يسعى لفهم المصطلحات والعيش وفقا لها.

تحديات كثيرة مطروحة أمام البلديات. تحديات تتصل بالمسائل الديمغرافية والبيئية والاجتماعية -الاقتصادية والصحية. فلكل مجتمع بلدي طاقة بشرية تحتاج إلى تأطير وتوجيه، وإمكانيات مادية تحتاج إلى تعبئة وتنظيم.

لا زلنا رغم الهزات نؤمن أن البلاد دخلت مرحلة سياسية جديدة تقوم على أسس ديمقراطية وتعددية حزبية ومؤسسات، و تبقى تحتاج إلى مزيد من التأهيل للجهات الإدارية بشكل عام ورفع درجة التثقيف الإجتماعي للمواطنين بشكل خاص.

ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.

                                                      

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.