اللواحق والسوابق : قراءة في “شيطان وحجاب” لحبيبة المحرزي

تتولى نصوص الكاتبة والروائية حبيبة المحرزي لتشكل بكتابها الأخير مجموعة سردية تحمل رؤيتها الإبداعية والمضمونية لغة ومسارا وطرحا وعن كتابها الأخير “شيطان وحجاب” كمجموعة قصصية فقد احتوي على 80 قصة انتقلت فيها وبها الكاتبة إلى عوالم عدة ذاتية حد التصوف واجتماعية معيشية حد المكاشفة والإظهار.


طارق العمراوي

ثراء الاختيار والمشاكسة

ثمانون قصة وأقصوصة رقم كمي حولته الكاتب بالمضامين والمتون إلى رقم كيفي غاصت به في أعماق الشخصيات وسبرت أغوارها وقامت بالحفر في الأمكنة والأزمنة وعناوين هذه القصص توزعت بين الكلمة والكلمتين والجملة والسؤال بل تقاطعت مع المخزون التراثي والعقائدي والشعبي والأدبي ومنها ما تعودنا كتابته ونطقه وتداوله كأمثلة وكلمات وجمل مما قيل مثلا “مسافر زاده الخيال” لتعنون الكاتبة قصتها “مسافر دون زاد” ونظرا لطرفة كتابتها واستعدادها ليكون القارئ في وضع الحيرة والتساؤل والتفكير كان هذا العنوان أو تذكرك بصدر البيت المشهور وعوض تغييره لا يكتمل معها و “عيد بأية حال”هي حركة مفتوحة على الإيجابي والسلبي في نفس الوقت وتنزاح الحيرة جانبا وباستطاعتك استكمال الجملة الشعرية بعد قراءة القصة لتواصل هذا النسق الكتابي مع عدة عناوين مثل “ماضاع حق” و “لكل مقام” كما ذكرت المثل كاملا في عنوان قصتها “علي وعلى أعدائي”.

أما كلمة” قرعة” فهي من عمق ثقافتنا الشعبية ويتم استعمالها في عدة مواضع وللتعليق على عدة ظواهر مثل قرعة كنتيجة سلبية في لعب الورق أو بطيخة غير ناضجة وغيرها من المواضع وكلمات تشاكش المعتقد والسائد وتحرك السواكن وتبسط للعرض و اللامفكر فيه والمسكوت عنه مثل عناوينها “إجهاض” و”حبوب منع الحمل” و”قبلة مؤجلة” و”الشيطان ثالثهما” أما عنوان المجموعة القصصية “شيطان وحجاب” فهو كلمتين استقدمتهما الكاتبة من المرجعية العقائدية والدينية. كلمتان يشقهما خلاف واختلاف بل وتقابل وقد حملت الإنسان بعد تعريته وفك طلاسم تفاعله اليومي مع اليومي المعيش أو مع ذاته صفة الشيطان وتم إلباس هذا الاسم-الصفة للإنسان وهذا ما لمسناه في الأقاصيص المتناثرة في المجموعة ومن الشرور البشرية في عدة مواضع ولحظات هامة وفارقة.

أما حجاب بدون تعريف لكي لا يقرأ الاإسم داخل الحقل الدلالي الديني مباشرة رغم أن الكلمة هي زي نسوي توارثته الأديان فلبسته الفتاة المسلمة واليهودية والمسيحية وفي غيرها من التقاليد والأعراف.

هذه الكلمة يمكن أن تكون بمعنى تميمة إذا أنزلناها دلاليا في الثقافة الشعبية تقينا الشرور التي يمكن أن يتعامل معها وبها الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان والرابط بينهما أن يحجب الشر حقا ئقهم قبل فضحها وإظهارها للعيان فكلا الكلمتين مرتبط بعالم الشر والأشرار في قراءة خاصة.

الذات : التشكل والتمظهر

إن الذات وهي تتفاعل مع سواكنها أو مع الآخر تتأثر بالموجود طالبة المنشود لكن الموجود موجع ومؤلم في كثير من الأحيان ومفرح ومفرج في أحيان أخرى وقد عددت الكاتبة من حالات أبطالها في حراكهم المجتمع أو الذاتي معبرة بكلمات تحاكي ما يحس وما يلاحظ فكانت كلمات مثل “كاد قلبه ينخلع” أو حالات تسكنها وتؤثر فيها عندما تقول الكاتبة “غرقت في السواد باتت ليالي تتصارع مع الأنثى النهمة المتمردة في أعماقها” لتتواصل هذه الحالات وهذا الصراع الداخلي المؤثر في الذات و هي تتفاعل مع محيطها الذي يأبى في العديد من المحطات أن يتجانس مع متطلبات الذات إذ تقول الكاتبة “لكن وما إن يطلع النهار و يضاء الكون حتى يتملكها عناد أصم فتنسف كل اتفاق وتصادر كل صلح أبرمته في خيالها المرهق مع ذات تتلو حرمانا وقمعا واضطهادا”.

“والحيرة التي جمدت الجموع” وهول اللقاء والموقف وكيف ينعكس على الذات فتقف عاجزة حائرة إذ تقول الكاتبة: “الممرضة تقترب وهي تزداد جمودا وتحجر” والخجل الذي يرافق المرء وذاته في لحظات وجودية معينة وثابتة مع ثوابت الشخصيات وتحولاتها إذ تقول الكاتبة: “كانت تخشى أن ينقلب بعض الغموض في شخصيته إلى عيب أو عيوب كم مرة توقفت متسائلة محتارة بعض الغرابة في سلوكها يركلها لكن سرعان ما يتدارك الأمر ويعود رومنسيا طيبا”.

كما ارتبطت الذات بسلطة الذاكرة والذكريات “شريط الذكريات يومض ويختفي” وعن هذه السلطة تقول الكاتبة: “فراشه ما زال مرتبا منذ سنوات، ارتبكت ذاكرتها تذكرها بذكرى تتمنى لو تمحى من سجلها الزمني ومن عمرها كله”. وهذه الذات محكومة هي الأخرى بالآخر المتحكم فيها عبر تقاليده وأعرافه والعقلية التي توجب توارثها والحفاظ عليه داخلها محبوب مرحب به، والخارج منها منبوذ متروك وغير محمود، ولقد عبرت عن ذلك الكاتبة في احدى لوحاتها الوجودية إذ تقول ” صارت وراءه ذليلة مهانة تجلدها سياط الاتهام والريبة تنهشها نظرات الاستهجان الممزوجة بالتشفي تعريها تتركها كتلة عزلاء في صمت نازف”.

المجتمع نداءاته وإشكالاته

غاص النص الإبداعي بقصصه العديدة في الواقع المجتمعي طالبا العرض والتعري والبسط والتنقيب فجاب في مختلف زواياه وخباياه وما خفي منه وما ظهر للعيان والناظر بعين الثاقب المتمعن فكان الانقطاع عن الدراسة لأسباب أسرية أو اجتماعية وفرض على الكاتبة وهي المشدودة إلى مجتمعها طالبة الإصلاح والمستقبل المنير لشعبها الحديث عن “الحرقة” هذه الظاهرة المجتمعية التي تنخر الجسد المجتمعي وعقول شبابه وشاباته والنهايات المأسوية للعديد منهم ففي قصة” نوم ثقيل” تبسط بطريقتها الساحرة هذه الظاهرة منهية قصتها المؤثرة قائلة “غلبني النعاس وجثم على نوم ثقيل جدا ونحن في الخرابة التي جمعنا فيها ” “الحراق” نادوا علي محاولين إيقاظي آخر الليل كي نركب الزورق ونمضي إلى بلاد الطليان قبل أن يتفطن البوليس”.

والدروس الخصوصية التي أثرت سلبا على التمدرس ومستقبل التعليم بتونس والاتجار بالأعضاء الذي غزا أرضنا وممتلكاتنا الجسدية والبنكية والشبكات التي تديره كالمصحات الخاصة أو المستشفيات وشيوخ الخليج والملايين التي تقلب المعطيات وتجعل الملاك شيطان أمام إغراء المال في زمن الحاجة وبورصة الأثمان التي تقول عنها الكاتبة: “ليس هذا اتفاقنا لقد اتفقنا على مائة مليون لا ترفعي صوتك فللحيطان آذان. الشيخ الخليجي يعرف الأسعارر المتداولة في العالم كله السعر الاقصى يحوم حول الستين مليونا” لتغادر الأرض التونسية وهي المحملة بهاجس الحب والجمال رافضة الفكر الداعشي في مجمل نصوصها الإبداعية ومنها “كفارة الحبس للنساء” وهي تعرض هذه الأفكار ومآلاتها إذ تقول: “أجلانا الفرنسيون يوم بقينا وجه لوجه مع طالبان بعد أن غادرت جيوش الحلفاء أفغانستان العالم كله تخلى عنا تركنا للسحل والرجم والشنق في الساحات العامة”.

وللحديث عن المجتمع كانت المهن التي عرجت عليها الكاتبة ومنها المهن القديمة التي اندثرت لكن يثبتها النص الإبداعي كالبراح إذ تقول: “جاب الأحياء والأزقة يبحث عن موكب عزاء أو بشائر فرح كي يعلم به أهل المدينة بصوته الجهوري المألوف منبها إلى ساعة الدفن أو تنقل موكب العروس كي يهبوا معزين أو مهنئين”. أو زرابي القيروان والطابونة والمذراة والكسكسي وروائح البخور والبسيسة والقماط والبقلاوة والثقافة الشعبية في علاقتها بظواهر السحر والطلاسم والغيبيات إذ تقول في موضعين أولهما: “زوجته قالت بغضب شديد إنها لا تأكل إلا طبيخ أمها لأنها تخاف من السحر ومن النفاثات في العقد” وحمل كتاب “الحصن والحصين” كي لا تؤذيه العين الحاسدة” والطب الشعبي والمداواة به والتنمر وطفل الأنبوب و العمارة القديمة واليد الحديدية المعلقة على الباب الخشبي وشهادة الزور وغيرها من الظواهر والآفات التي تنخر هذا المجتمع التي آلت الكاتبة على نفسها تحديثه والحديث عنه ومحادثته.

المرأة : الكائن ومآلاته

في قصص الكاتبة حبيبة المحرزي وهي المنتصرة لمكاسب المرأة وطنيا وعربيا ليقوم نصها الإبداعي على طرح العديد من الإشكاليات التي ترتبط جدلا وجوهرا مع المرأة في حراكها المجتمعي وفي تشكلها الماضوي ومحاولات جعلها سلعة وجسدا يقلل من قيمتها كإنسان في هذا المحيط العائلي أو المجتمعي لتطرح في قصصها العديد من المسائل المهمة ومنها تعدد الزوجات وتأخر الحمل وكثرة الشائعات وضرب المرأة إذا تقول في قصتها” نوم ثقيل” الابن الذي يعيش مع زوجته التي تنام وتصحو على الضرب والركل والصفع كي يفتك منها ما تحصله من بيع خبز الملاوي في محطات القطار”.

وعددت الكاتبة من المهن الشريفة التي تدر المال بشرف وحرفية فكانت المرأة أيضا حارزة في الحمام وكاتبة في قصة أخرى ومضيفة وممرضة وغيرها من المهن كما عرجت على الطلاق ومآسيه وقبله زواج النات وزواج القاصرات والخيانة الزوجية والشذوذ الجنسي خاصة في قصتها” قميص النوم” إذ تقول ” فتحت باب الشقة فإذا أحذية رجالية مصطفة على اليمين وعلى الطاولة أطباق بها بقايا دجاج وأرز وحقق جعة كثيرة بعضها لم يفتح والبعض الآخر فارغ سمعت ضجيجا منبعثا من غرفة النوم أدارت المزلاج فإذا رجال عراة وبينهم هو بقميص نومها الذي سيدس في الغسالة بعد حين”.

وتحدثت بالتكثيف اللفظي والمعنوي عن ظاهرة خطيرة ارتبطت برجال الدين أولها في قصة” في الكتاب” إذ تقول: “كسروا الباب فوجدوا المؤدب يغتسل ليؤم المصلين في صلاة العشاء والطفلة مكممة في ركن تنزف” و في قصة “سوارمن فضة” تقول الكاتبة ” يومها قصدت حديقة الحيوانات قبل أن يعود زوج أختها من عمله الليلي كي لا يكتشف حملها بعد أن طردتها مشغلتها عندما عرفت بحملها من زوجها إمام الجامع الورع الذي اعتبرها “ملك اليمين”.

كما استطعت الكاتبة بلغتها السحرية تصوير مشهد الاغتصاب وما بعده بحرفية قلم متمكن من اللغة ومطوع لها ومفرداتها فتقول :”قذفته بحبات الطماطم مزقت ثيابه بأسنانها مثل ما مزق حياتها يوم جاءت تشتري ما يسد الرمق يومها عادت مكلومة تنزف ولم تذكر الأمر لوالدها ولا لأختها البعيدة لأن لاصوت لها حرمت على نفسها مغادرة الدار وحدها” وكان للجسد نصيب في جملها السردية بدأ باللباس ذاكرة الجلباب الأسود الفضفاض وما يخفيه من عقلية وتحجر ونفاق ومطلب الرجل ونظرته المعروفة والطالبة “القوام الممشوق” أو الصغيرات لتعيد مرة أخرى مشهدا دمويا مقرفا في علاقة رجال الدين بالأنثى قائلة: “منذ يومين علمت أن شيخا سبعينيا من قادتهم المنفذين تزوج أختي الصغرى التي لم تتجاوز الثانية عشر بعد أن اقتلعها من حضن أمي بالعنف وجرها على الأتربة والأحجار ليغتصبها على فراشه القذر نكاية في أنا لأنني اختفيت بعد أن أهدروا دمي لما ثبتت علي تهمة تدريس الفتيات في قبو تحت منزلنا” والعادات والتقاليد مستحضرة كلمة مفتاح متداولة” من الأصول” والعصمة بيد الزوج كمجتمع شرقي و أهمية الزينة والتبرج لكن بمواد خاصة متوارثة. إذ تقول ” هي خضبت بالحناء، طليت بالعطور، وأعيد رسم عينيها بالكحل، وشفتيها بالأحمر، وخديها بالبودرة الوردية”.

القاموس: الثراء والتنوع

احتاج السرد الخاص بالكاتبة حبيبة المحرزي إلى كلمات بالفرنسية في قصة “لكل مقام” وكلمات عامية تؤدي المعنى وتعمق الفهم لذلك لجأت إليها الكاتبة رغم تمكنها واستحضارها لمعجم و كلمات من زمن فطاحلة الشعر والسرد مثل “يرطن” ومغبشا” وغيرهما وكلمات عامية مثل” كحلوش” و”الشمبو” و”جاكيتتها” والجقوار” وقطعة أرضنا الظهروية “مع استحضار لأمثال شعبية متداولة تحاكي لحظات حياتية ووجودية موزعة في فقرات قصتها مثل “زر غبا تزداد حبا”
و”كب الطنجرة على فمها إلي في البننية في أمها” و” داخلين في الربح خارجين في الخسارة ” كما تقاطعت مع النص القرآني والسنة في عدة تمفصلات ومنها “لا تسألوا عن أشياء أن تبدو لكم تسؤكم” و”يكاد زيتها يضيء و لو لم يمسسه نار” لترتبط هذه الآيات وغيرها بعقلية المجتمع فتقول الكاتبة على لسان أبطالها: “سيعلق أمام المطعم ذيل سمكة كبير وأمام الدار سينقش آيات من القرآن الكريم لتقيهما من شر حاسدا” أوخوف أحد بطلات قصتهاإذ تقول على لسانها: “زوجته قالت يغضب شديدا بأنها لا تأكل إلا من طبيخ أمها وأخواتها لأنها تخاف من السحر” وكلمتين من المتن القرآني: “النفاثات في العقد”.

قول و بعد

سرديات الكاتبة حبيبة المحرزي حاملة لقضايا المرأة المعاصرة المتشبثة بجذورها وأصولها التي طوعتها لواقع متحرك غير ثابت لتتواصل معه وهي محملة بجملة قناعات زرعتها في أرض قصصها جابت بنا في كل تمظهرات الإنسان رجل وامرأة هنا في تونس بقراها وأريافها ومدنها أو هناك في أراضي أخرى لكن بها نفس الهم والطرح والمسائل لغتها كانت ساحرة احتاجت العامية فاستقدمتها كما احتاجت قاموسا قديما فكان لها ذلك مع مراوغات كاتبة متمكنة من السرد تشدك إلى نصها وترمي بك في واد غير ذي زرع وتكون نهايات قصصها غير منتظرة لكنها قابلة للتحقق والإمكان تتمتع وأنت قارئ أو ناقد بالأفكار والحكايات كما يزيد هذه المتعة اللغة ولعبة الأماكن والأزمنة.

ا

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.