ما شهدته مدينة بنزرت يوم 27 أوت 2025 من أحداث شغب بعد مباراة كرة القدم، ثم ما حصل في مركز “كارفور” التجاري بالعاصمة يوم 30 أوت 2025 من عنف متهور، وما يتكرّر في الشوارع والطرقات من مظاهر فُتوّة منحرفة، وتصرفات متعجرفة تهدف إلى فرض الذات أو السيطرة على الآخرين. كلها سلوكيات تثير الانتباه وتطرح سؤالاً مباشرًا: هل ما نعيشه اليوم يعكس كفاية البرامج الأمنية الحالية؟ وإذا كان الأمن هو ركيزة أساسية للاستقرار الاجتماعي والتنمية وجذب الاستثمار، فما الذي يلزم لتحديث المخططات القادمة؟
العقيد محسن بن عيسى *

لا يمكن أن ننكر الجهود المبذولة منذ 2011 لإصلاح القطاع الأمني، ولا التضحيات الكبيرة التي قدمتها قوات الأمن الداخلي والقوات المسلحة في مواجهة الإرهاب. تشير تقارير إلى أنّ تونس حلّت في المرتبة 43 ضمن مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2025، ما يشير إلى تحسن نسبي في هذا الجانب. هذا فضلا عن الإعلان عن نتائج الحملات الأمنية في مختلف المجالات ما يدل على استمرار العمليات الأمنية في البلاد.
إنجازات لا تُخفي التحديات
لكن التحديات الراهنة لا تزال قائمة وواضحة في المشهد الأمني التونسي: ارتفاع معدلات جرائم القتل، وجرائم العنف ضد المرأة، والجرائم الالكترونية، واستمرار التهديد الداخلي وإن كان محدودًا، وتفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية لا بوصفها تحديا اجتماعيا فحسب، بل أيضا كبيئة خصبة لنشاط شبكات الجريمة المنظمة والاتّجار بالبشر، مما يزيد من تعقيدات المشهد الأمني. هذه التحديات مرتبطة بعوامل هيكلية مثل نقص الموارد والتجهيزات، وبعوامل اجتماعية، واقتصادية كالبطالة والفقر والتهميش.
تمارس الدولة العنف المشروع لأجل القانون وتعمل الأجهزة الأمنية في ضوء ذلك على مجابهة كل الظواهر المخلة بالنظام العام، ورغم ذلك تبقى الجرائم من التحديات اليومية التي تواجهها الأسلاك الأمنية والمواطنين على حد سواء. كل البيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسات حكومية، والتقارير الصادرة عن منظمات محلية ودولية متخصصة في رصد هذه الظواهر تؤكد ذلك.
هذه الصورة ليست مجرد إزعاج عابر، بل مؤشر على ضرورة مراجعة عميقة وجذرية لتوجهات الحفاظ على الأمن العام.
من الخطة إلى الثقافة
الانتقال من “الخطة إلى “الثقافة” هو عملية معقدة تتطلب تضافر الجهود من مختلف الأطراف، مع الأخذ بعين الاعتبار التحديات القائمة. هنا تبرز أهمية الاستفادة من التجارب الدولية، مع صياغة نسخة واقعية تراعي خصوصيات البلاد.
عدّة دول طوّرت مقارباتها الخاصة وفق مواردها وظروفها:
. بريطانيا”: نظام Contest منذ 2003.
. الولايات المتحدة: نظام NTAS) National Terrorism Advisory System) منذ 2011.
. إسبانيا: خطة Sistema de Seguridad Nacional لسنة 2004 بعد هجمات مدريد.
. فرنسا: مخطط فيجيبيرات Vigipirate الذي أطلق سنة 1978 وتطور تبعًا للتهديدات.
بعد ذكر التجارب الدولية، من الضروري الإشارة إلى أنّ تطبيقها ليس نسخ ولصق مثلما أشرنا. يجب تحديث القوانين والتشريعات لتواكب التهديدات القائمة، وتمكّن الأسلاك الأمنية من العمل بفاعلية، والعمل على تطوير البنية التحتية الأمنية، سواء على مستوى التجهيزات أو الموارد البشرية، لضمان القدرة على سرعة الاستجابة السريعة والفعالة.
في السياق، هناك حاجة لتحقيق توازن دقيق بين الإجراءات الأمنية الصارمة وحماية الحريات الفردية. يمكن تحقيق هذا التوازن عبر آليات رقابية قضائية وإعلامية على عمل الأجهزة الأمنية، ووضوح تام للإجراءات المتخذة في كل مستوى إنذار، وذلك حفاظًا على الشرعية المجتمعية التي تمثل رأس مال الأجهزة الأمنية الحقيقية.
نحو تجربة تونسية تدريجية
من بين النماذج، يبدو المخطط الفرنسي ” فيجيبيرات” الأقرب للاستئناس به في تونس، لمرونته واعتماده على مستويات إنذار محدّدة، مع إشراك الفاعلين. صياغة نسخة تونسية يمكن أن تقوم على:
- مستويات إنذار واضحة (3 أو 4 درجات) مع إجراءات مرافقة لكل مستوى.
- تنسيق مؤسساتي بين الداخلية والدفاع والنقل والصحة، مع دوريات مشتركة بين الأمن والجيش.
- حماية المنشآت الحساسة عبر بروتوكولات خاصة بالمطارات، والموانئ، ومحطات النقل، والطاقة.
- إشراك المواطن من خلال منصات تبليغ سهلة (رقم أخضر، تطبيق هاتفي) وحملات توعية، ودمج مفاهيم “اليقظة والتوعية الأمنية” في المناهج التربوية وفي برامج تكوين المجتمع المدني، لتحويل المواطن من متلقّي سلبي للإجراءات إلى شريك فاعل في ثقافة الوقاية.
تمتلك تونس الكفاءات القادرة على إعداد هذا المخطط عبر لجنة فنية مشتركة. ويمكن الشروع في مرحلة تجريبية على نطاق محدود في العاصمة والموانئ والمطارات، قبل التعميم تدريجيا.
إن الانتقال من ردّ الفعل إلى ثقافة الاستباق ليس خياراً ثانويًا، بل ضرورة أمنية واجتماعية. حين يستعيد المواطن ثقته في الشارع والمؤسسات، تستعيد البلاد أيضًا صورتها كفضاء آمن للاستقرار والاستثمار.
جدلية الإرادة السياسية والأمن
تتجلى الجدلية بين الإرادة السياسية والأمن في كون كلٍّ منهما شرطاً ونتيجة للآخر في آن واحد. فالإرادة السياسية الرشيدة قادرة على صياغة استراتيجيات أمنية فعّالة، تحدد الأولويات وتوظف الإمكانات في بناء منظومات ومؤسسات تحمي الدولة والمجتمع، بينما يشكّل الأمن بدوره الأرضية الصلبة التي تتيح لهذه الإرادة أن تتحول إلى فعلٍ ناجز. غير أن غياب هذه الإرادة أو انحرافها يحوّل الأمن إلى مجرد أداة قمع أو غطاء هشّ سرعان ما ينهار عند أول أزمة.
وتكشف التجارب العربية عن وجوه متعددة لهذه الجدلية؛ ففي الجزائر بعد 1962، برزت الإرادة السياسية لبناء دولة حديثة توجه الأمن نحو حماية السيادة وترسيخ الاستقرار. بينما أظهرت الحالة الليبية بعد 2011 أن غياب الإرادة الموحدة جعل الأمن في خدمة الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية. أما العراق بعد 2003، فكان مثالاً صارخاً على أن غياب إرادة وطنية جامعة وانقسام القرار السياسي يفتح الباب أمام انهيار المنظومة الأمنية وتدويل القرار السيادي.
تؤكد هذه النماذج أن الأمن ليس محايداً، بل يعكس طبيعة الإرادة السياسية التي تصوغه. وحين تتحول الإرادة إلى صراع مصالح ضيقة أو رهينة لضغوط خارجية، يصبح الأمن نفسه جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.
وإذا كان الأمن مرآة للإرادة السياسية، فإن التحدي الحقيقي لتونس هو تجاوزه حدود الاستجابة الظرفية، ليتحوّل إلى ثقافة مشتركة تُرسّخ الاستقرار عبر الاستباق.
ضابط متقاعد من الحرس الوطني.
شارك رأيك