إذا أرادت الدولة التونسية أن تلعب دورها الاجتماعي، عليها أن تحسّن في جودة الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ونقل، فهذا هو الدور الاجتماعي الحقيقي الذي يمكّن من تحسين كبير في المقدرة الاجتماعية لا أن تتولى هي نفسها تحديد مقدار الزيادة في الأجور، فهذا دور المفاوضات الاجتماعية في كل أقصاع الدنيا.
رضا الشكندالي *

بخصوص الفصل 15 حول إقرار الترفيع في الأجور والمرتبات في القطاعين العام والخاص وجرايات المتقاعدين بعنوان سنوات 2026 و2027 و2028 : في غياب المفاوضات الاجتماعية، هذه الزيادة غير مضمونة ولا يمكن أن تكون بنسبة تحافظ على المقدرة الشرائية للمواطن التونسي.
1. لأول مرة في تاريخ تونس يقع التنصيص في قانون المالية على الزيادة في الأجور لمدة الثلاث سنوات القادمة، فحتى في بداية السبعينات، لجئت الحكومة للترفيع في الأجور بدون مفاوضات اجتماعية لكن بدون التنصيص عليها في قانون مالية. وقتها كان الاتحاد العام التونسي للشغل موافقا طرفا هاما في الحكومة وقد شارك بصورة فعالة في رسم السياسات الاقتصادية آنذاك وبالتالي كان موافقا على تلك الزيادة بل مشاركا في تحديد نسبتها.
2. لا بد أن نفهم أن تنصيص الترفيع في الأجور لمدة 3 سنوات في مشروع قانون المالية لسنة 2026 يندرج في إطار المقاربة التي تضمن بالديمقراطية المباشرة والتي تقتضي إبعاد الأجسام الوسيطة، فالدولة الاجتماعية حسب هذه المقاربة لا تحتاج الى جسم وسيط للتواصل مع الشعب وبالتالي، فهي التي تقرر ولا أحد غيرها، الترفيع في الأجور وتحديد نسبته بدون الحاجة الى الاتحاد العام التونسي للشغل ولا الى مفاوضته.
3. لكن بعيدا عن هذه المقاربات السياسية للديمقراطية، هل من مصلحة الأجير أن تتولى الدولة لوحدها تحديد نسبة الترفيع في الأجور بدون مفاوضات اجتماعية مع المنظمة الشغيلة ؟
في تقديري، وفي غياب المفاوضات الاجتماعية لن تكون هذه الزيادة في الأجور مضمونة ولن تمكّن الأجير التونسي من المحافظة على مقدرته الشرائية.
صعوبات جمة في تنفيذ موازنات الدولة
4. لن تكون الزيادة في الأجور مضمونة مائة بالمائة على الأقل بالنسبة للسنة القادمة :
أ. مقدار الزيادة في الأجور حدد ب 900 مليون دينار بما أن حجم الأجور في ميزانية الدولة ارتفع من 24.4 في سنة 2025 الى 25.3 مليار دينار في سنة 2026 وهو مبلغ لا يمكّن الدولة من دفع أجور المنتدبين الجدد (51 ألف و878) وفي الوقت نفسه الترفيع في الأجور، إلا إذا كان هذا الترفيع بنسبة ضعيفة جدا.
عدم تحديد نسبة الزيادة في الأجور في الفصل 15 لا يلزم الدولة في شيئ وقد تضطر الدولة حتى الى تأجيل هذه الزيادة الى 2027 إذا كانت التوازنات المالية لا تسمح بهذه الزيادة.
ب. مبلغ النفقات الطارئة وغير الموزّعة وهو 1800 مليون دينار ليس مضمونا وهو مرتبط بقدرة الدولة على تعبئة الموارد الجبائية والتي حددت ب 47.8 مليار دينار (أي بزيادة ب 3 ألاف و300 مليون دينار كاملة) وموارد الاقتراض الخارجي والتي حددت ب 6 آلاف و 808 مليون دينار (أي بزيادة 2400 مليون دينار كاملة). فقد أثبتت نتائج لتنفيذ موازنات الدولة السابقة منذ 2023 أن الإفراط في التفائل على مستوى فرضية نسبة النمو الاقتصادي قد أفقدت الدولة مبالغ مهمة على مستوى الموارد الجبائية فاقت في بعض السنوات ال 3 ألاف مليون دينار. وفي مشروع قانون المالية لسنة 2026، نسبة النمو المفترضة وهي 3.3 بالمائة فيها الكثير من التفائل خاصة وأن المؤسسات الدولية ومنها البنك الدولي قدرت تراجعا في نسبة النمو الاقتصادي للسنة القادمة الى 2.1 بالمائة بالرغم من الظروف العالمية التي تخدم تونس.
كما بيّنت هذه النتائج لتنفيذ موازنات الدولة الصعوبات الجمة التي تعترض الحكومة في تعبئة موارد الاقتراض الخارجي بعد قطع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فخلال سنة 2023 رصدنا 14.5 مليار دينار كاقتراض خارجي ولكننا لم نتمكن من تحصيل غير 5.8 مليار دينار وفي 2024، رصدنا 16.5 مليار دينار كاقتراض خارجي لكننا لم نتمكن من تحصيل غير 3.5 مليار دينار.
نسبة التضخم المالي الحقيقية لا تقل عن 15 بالمائة
5. في حالة تمكن الدولة من تعبئة الموارد الجبائية المنتظرة وموارد الاقتراض الخارجي المبرمجة وهو أمر مستبعد، فإن نسبة الزيادة المنتظرة لن تمكّن الأجير من المحافظة على قدرته الشرائية في كل الحالات. فنسبة التضخم المالي الحقيقية والتي يحس بها المواطن التونسي لا تقل عن 15 بالمائة، وهي النسبة المعلنة من طرف المعهد الوطني للاحصاء على المواد الضرورية من لحوم وأسماك وخضروات وغلال. أما إذا أردنا أن نستند الى أرقام المعهد الوطني للاحصاء خلال ال5 سنوات الأخيرة، فإن معدّل نسبة التضخم المالي هي في حدود 7.2 بالمائة ولا أعتقد أن الدولة ستذهب في هذه النسبة خاصة وأن الموارد المخصصة في ميزانية الدولة لسنة 2026 لا تمكّن من ذلك. ولا أعتقد كذلك أن الموارد المخصصة للترفيع في الأجور تسمح حتى بزيادة ب 5.4 بالمائة وهي نسبة التضخم المالي للسنة الحالية.
6. في غياب هذه النسبة في الفصل 15 من مشروع قانون المالية لسنة 2026، وفي غياب مفاوضات اجتماعية، لا أحد يمكن أن يلزم الدولة على الترفيع في الأجور وقد تتذرّع وزارة المالية في الأخير بالتوازنات المالية وعدم القدرة على الالتزام بالزيادة على الأقل للسنة المقبلة إذا اعترضتها صعوبات في تعبئة الموارد الجبائية وموارد الاقتراض الخارجي إلا إذا التجئت مرة أخرى الى اقتراض مباشر من البنك المركزي ينضاف الى مبلغ 11 مليار دينار المبرمجة في قانون المالية لسنة 2026.
7. في تقديري إذا أرادت الدولة أن تلعب دورها الاجتماعي، عليها أن تحسّن في جودة الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ونقل، فهذا هو الدور الاجتماعي الحقيقي الذي يمكّن من تحسين كبير في المقدرة الاجتماعية لا أن تتولى هي نفسها تحديد مقدار الزيادة في الأجور، فهذا دور المفاوضات الاجتماعية في كل أقصاع الدنيا.
* إقتصادي.



شارك رأيك