الرئيسية » اليسار “المستبِِدّ” والتحدّي الديمقراطي

اليسار “المستبِِدّ” والتحدّي الديمقراطي

%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%b3%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%b1%d8%b9

بقلم : محمد الصالح العمري*

تفاعلا مع  الجدل والنقاش الواسع الذي أثارته تصريحات النائب والقيادي في الجبهة الشعبي منجي الرحوي، نشر محمد الصالح العمري ، وهو مناضل وناشط سياسي يساري نصا كتبه في مارس وأفريل 2016  ، من أجل اثراء  الحوار.

يهدف هذا المقال إلى المساهمة في تحريك بعض سواكن اليسار العربي والتونسي خاصة، والدفع باتجاه حوار معمّق، وهو بذلك يتجنّب طرح الحلول المتعجّلة والدخول في جدل نظري. وينطلق المقال من التأكيد على أنّ اليسار العربي، بمعناه العام، ساهم من موقع متقدّم في الحراك الإجتماعي الذي أفضى إلى الثورات العربية منذ 2011 . وقد كان له دور ريادي في صياغة ودفع شعارات الثورات التي دعت إلى الحرية والكرامة الوطنية، وجعلت الإرادة الشعبية محدّدا في حركية تاريخية جديدة تضع العدالة الإجتماعية في موقع المركز، إلى جانب الحريات العامة والديمقراطية. غير أنّ التغيير السريع والجذري للموازين في البلدان الثائرة أوجد اطارا للقوى التي تروم التراجع عن الحداثة المنقوصة أصلا والذهاب بها صوب اتجاه عكسي للتاريخ – اتجاه نكوصي  وماورائي في نفس الوقت. وتجد هذه القوى أساسا لها خارج البلدان الثائرة ولكن في علاقة تتّسم بخصوصية عربية-اسلامية. ومن ثمّة أخذ هذا الخطاب والذي تدعمه مؤسّسات “معرفية” ومالية وبشرية قويّة في ملء فراغات تركتها القوى الحداثية المتراجعة.  فقد كان من المفترض أن يسعى اليسار إلى تحويل مايُعرف بالربيع العربي إلى إطار لتجذير الحداثة أوتعميق التفكير في شوائبها أواستنباط طرائق خلاّقة لحداثة ذات منزع ثوري. وأدّى كل ذلك الى بداية انتكاسة لأمكانية ابداع حداثة جديدة وإلى إهدار البعد الإجتماعي للثورات، فأصبح مدار المعركة الحدّ من تسرّب الفكر الداعشي ومن عودة آلة الإستبداد القديمة.

والواقع، إذا ما تمحّصناه برؤية نقدية وتجرّد من الولاءات والفئوية، ينبئنا أنّ منطق الاستبداد كامن في اليسار ذاته، فاعل فيه وموجّه لسلوكه السياسي.

فالمتأمّل في المنتوج الثقافي اليساري العربي – من أدب ومسرح وسينما خاصة – يلحظ أن التمثّل الثقافي للمثقّف اليساري محكوم غالبا برؤية مستبِدّة تتراوح بين التحكّم المطلق في السرد والرؤية المحدِّدة ميكانيكيا للظرف الإجتماعي في النظرة إلى العالم، أو الأحكام القطعية التي ترفض التنسيب والنقد والمراجعة العميقة.  فروايات حيدر حيدر وحنا مينا، وغيرهم كثير، تعدّ مسارحَ لبطل تتراوح مصائره بين العزلة الإجتماعية والإنكسار والخيبة وحتى الهذيان والجنون، وهو يخوض حربَه الدنكشوتية،  صلبا لا يلين، طريقه “أمام أو أمام أو أمام” كما قال الشاعر أولاد أحمد، دون أن يكلّف نفسه عناء المراجعة والتساؤل والتنسيب، ودون الإعتراف بأنّ تغيّر المسائل المطروحة أمامه يستدعي استنباط وسائل وإجابات جديدة، ودون الإقرار بإمكانية أن يكون غيرُه أنسب منه أو أكثر ملاءمة للواقع الجديد. تقف هذه المركزية و”التوحّد الإيديولوجي” في الواقع ضد حركة التاريخ ولها في واقع اليسار العربي على المستوى السياسي والممارسة الميدانية أمثلة عديدة.

وإذا ما توقّفنا عند المثال التونسي باعتباره درسا ومجال اختبار مفتوح على احتمالات عدّة، تبيّن لنا عمق أزمة اليسار في مرحلة الإختبار هذه ومدى تمكّن منطق الإستبداد منه. فلئن أعادت الثورة السياسة الى المواطن والمواطن الى السياسة، كما قال صادق جلال العظم، فإنّ مسارات ما بعد الثورة في تونس نجحت في إعادة الإثنين، السياسة والمواطن، إلى علاقة مَرضية من علاماتها:

  • الإحباط لدى الشباب خاصة في إمكانية المشاركة في الشأن العام والفعل والقيادة يوما ما،
  •  غياب الثقة في الديمقراطية في حدّ ذاتها،
  •  الإحساس بالضعف أمام آلة قاهرة،
  •   بداية الشعور بأنّ ما كان حلما أصبح كابوسا.

فتونس تمرّ بحالة قصوى من الاحتباس الديمقراطي، يكمن تشخيصها أساسا في وجود ثلاث طبقات تشتغل كل منها بمنطق يبدو مختلفا عن غيره ولكنّه في الواقع شديد الارتباط به. فالرئاسات الثلاثة منتخَبة انتخابا حرّا ديمقراطيا، بقطع النظر عن الهنات التي شابته. ولكنّ الانتخابات سرعان ما وقع التحكّم فيها من طرف الطبقة الثانية التي أفرزت الرئاسات الثلاث والحكومة الحالية. هذه الطبقة تتكون أساسا من قيادات جميع الأحزاب، المعارض منها والحاكم. وهي جميعا غير منتخَبة انتخابا حرّا وديموقراطيا. أمّا في الطبقة السفلى، فنجد عموم الناس الذين انتخبوا البرلمان والرئيس ولم ينتخبوا قيادات الأحزاب، أي أنّهم انتخبوا ولم ينتخِبوا، أو كمال قال الشاعر الراحل أولاد احمد، ذهبوا جميعا إلى الإنتخاب ولم ينتخب أحد من نجح، من قيادات الأحزاب خاصة. فجميعها تحكمها إمّا قيادات تاريخية (حركة النهضة واليساربمختلف تفرّعاته) أو قيادات مرتبطة بالعهد السابق (نداء تونس وما شابهه) أو قيادات مالية (الحزب الوطني الحر وما شابهه).

هذا الوضع أفضى إلى ديمقراطية لا يمكن تسميتها، اذ لا يوجد لها مثيل خارج تونس. هي مَشهدية، من ناحية كونها ظهرت للعالم في صورة ديمقراطية يصعب التشكيك فيها. أمّا دواليب السلطة المنتخَبة فتحكمها قوى غير منتخَبة (على سبيل المثال، يدير الائتلاف الحاكم أربعة أحزاب لم تنجز مؤتمراتها الى حدّ الان). ويصحّ الأمر على المعارضة التي تقودها جبهة أحزاب يسارية لم تنتخب قياداتها ديمقراطيا إلى الآن، لا حزبيا ولا جبهويا. تشكّل هذه القيادات الفعلية للدولة عامل احتباس أوجد حالة لا يمكن أن تكون إلّا خطيرة وقابلة للإنفجار.

وسط كل ذلك، تمكّنت منظومة السلطة من إضاعة الناس في التفاصيل والمخاوف والمعميّات. وعادت هجرة الشباب إلى الخارج بقوّة، سواء كان ذلك لجهاد مزعوم أوبحثا عن مكان افضل للدراسة والعيش. وتماما كما أنتجت الدكتاتوريات مجتمعا سياسيا على صورتها، تمكن الاحتباس الديمقراطي من انتاج تعطّل كامل قد لايحرّكه الاّ انفجار جديد. والغريب أنّ الخاسر الأكبر هو الأحزاب التي تقف في صفّ الثورة في برامجها وتوجهاتها،أو ما يُعرف باليسار عموما، والتي تمثّلت صورة وآليات الأحزاب المهيمِنة وأغلقت الآفاق أمام شبابها والقوى المجدّدة سواء كانت فيها أو خارجها. وهي بذلك تتّجه عكس ما ذهبت اليه اليونان وإسبانيا، وحتى حزب العمال البريطاني، الذي أعطى ناخبيه حرية الإختيار فاختاروا الأفضل لتطلّعاتهم ورفضوا الأقدم والأكثر تجربة، تحديدا لأنّه ابن الآلة المعطّلة للتجديد والتطور.

وقد شكّلت هذه المواقف حجر الزاوية ليسار يمكن وصفه بالمستبِد ولمثقّف يساري يحتكر الرأي والقرار ويرفض التنحّي عن مواقع قيادة وصل إليها دون منافسة مفتوحة وديمقراطية. ولعلّ موقف اليسار التونسي من الثورة السورية خير دليل على ذلك. فحاكم سوريا مستبَد حداثي يصارع قوى الظلام  لدى البعض، وقائد وطني يقف في وجه العدو القومي لدى البعض الآخر، متناسين رفاقهم من اليسار السوري المقتّلين والمشرّدين والمعتقلين لدى نظام الأسد.  والواقع أنّ مواقف اليسار التونسي المنتظم في أحزاب وجبهة  والعديد من المستقلّين تنظيميا تتراوح في عمقها بين مساندة المستبد لأنّه عادل ومساندة المستبّد من منظور كونه وطني ومساندة المستبِد بحجّة أنّه مناضل تاريخي ومساندة المستبد من زاوية كونه مستنير. أين هذا من الحزب اليساري الديمقراطي الكبير الذي خطّط له شكري بلعيد وتركه أمانة في عنق الجبهة الشعبية وقياداتها؟ أم أن اليسار التونسي،كغيره من أحزاب وتجمّعات تونس بعد الثورة، يخشى الديمقراطية الحقيقية ويواصل منهج ولاية القيادات التقليدية والتاريخية، بما لها وما عليها؟  لعلّ أهم مكسب لثورة التونسيين يكمن في إرساء مبادئ الحرية ووضع آليات ممارساتها. وعلى اليسار أن يمسك بهذا المكسب لا فقط بالدفاع عنه وتدعيمه وإنّما، وأساسا، بمتمثّل الحرية والديمقراطية كبديل للإستبداد الكامن في ممارساته السياسية والثقافية على حدّ السواء.

…………………………………………………………………….

*نشر نص المقال في شكل تدوينة على حساب الفايسبوك  لمحمد الصالح العمري

…………………………………………………………………………

**  المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

شارك رأيك

Your email address will not be published.