الرئيسية » في ردّ ابن عاشور على الوهابيين…

في ردّ ابن عاشور على الوهابيين…

 

بقلم أسعد جمعة

القول المُبين ردّ العلاّمة ابن عاشور عمّا افتراه وهّابيّو آل سعود من جواز تكفير المسلمين.

ممّا افتراه متأخّرو دعاة الوهّابيّة في ربوعنا كذبًا وبهتانًا على علاّمتنا الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور أنّ شيخنا الفاضل قد كفّر الشّيعة في كتاب التّحرير والتّنوير. وإنّما اقترفوا هذه الشّناعة تأصيلا منهم لمبدإ التّكفير باعتباره قوام التّديّن والتّقوى وفق ما اعتقدوه من ضلالات.

ولمّا كانت هذه الافتراءات كفيلة بالعصف بدعامة ديننا الحنيف، أعني ما اختصّ به من تسامح ورحمة ويسر، وكلّها من أسمائه الحسن –تعالى عن أقوالهم علوّا كبيرًا-، فمن أوكد ما يحمل على علماء هذه الأمّة أن يتصدّوا لمثل هذه الجهالات، بالرّدود الرّصينة الموثّقة، درْءً لغوغائيّة العامّة الهوجاء واتّقاءً لتعصّب السّوقة الجاهلة.

ذلك أنّ النّاظر المتأنّي في درّة التّحرير والتّنوير المكنونة لا يسعه الوقوف على كلمة واحدة عاضدة لمعنى تكفير الشّيعة مسطورة بقلم علاّمتنا، بل أنّ المتصفّح لهذا الأثر النّفيس لن يعثر على حرف واحد منذر بجواز تكفير المسلم بأيّ معنى من المعاني؛ بحيث أنّه يحقّ لنا أن نفاخر بموسوعتنا الوطنيّة إزاء الأنام والمعمورة قاطبة لما اتّسمت به من نفس تحرّريّ ومن سماحة المنطوق والرّوح.

رحم الله شيخنا النّحرير الإمام محمّد الطّاهر بن عاشور وأزاح عن سمائنا عملاء الوهّابيّة وأزلامها.

وما من شكّ أنّ مدار الدّعوة الوهّابيّة إنّما هو تكفير جمهور المسلمين لأتفه الأسباب. فمن خلال الرّسالة التي أرسلها محمّد بن عبد الوهّاب إلى تونس في عهد حمودة باشا سنة 1814 ، والتي تكفّل بالردّ على ما تضمّنته من ضلالات ثلّة من علماء الزّيتونة البررة (إسماعيل التّميمي –ت 1832- “المنح الإلهيّة في طمس الضّلالة الوهّابيّة”، وأبو حفص عمر بن قاسم المحجوب –ت 1807- “رسالة الردّ على الوهّابيّة” –نشر هذان الردّان مرارًا-، وإبراهيم الرّياحي ومحمّد بن الشّيخ صالح الكوّاش –فُقدت الرّسالتان-)، يمكن إرجاع مفاد الدّعوة الوهّابيّة إلى ضرورة تكفير المسلمين بدعوى:

1 – زيارة الأولياء الصالحين.
2 – التّوسّل للصّحابة والاولياء.
3 – بناء المشاهد والبنيان على القبور والقباب.
4 – زيارة القبور.
5 – زيارة قبور الأنبياء.
6 – منع النّذور.

ولئن تعهّد علماء الزيّتون -ممّن ذكرنا ومَن لم نذكر- بالردّ على المزاعم الوهّابيّة، فإنّ الردّ الأكثر تأصيلا وتفصيلا وتوثيقًا ورد بقلم العلاّمة ابن عاشور في موسوعة التّحرير والتّنوير.

أمّ من حيث التّأصيل، فيقول علاّمتنا، معرّفًا فعل الكفر تعريفًا جميعًا يقصي مجرّد إمكانيّة اتّصاف المسلم به، فضلا عن استحقاقه لحكم الكافر وما يستتبعه من حدود مستحقّة من ذمّة الكافر: “وَالْكُفْرُ بِضَمِّ الْكَافِ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ لِكَفَرَ الثُّلَاثِيِّ الْقَاصِرِ وَأَصْلُهُ جَحْدُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ، اشْتُقَّ مِنْ مَادَّةِ الْكَفْرِ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ الْحَجْبُ وَالتَّغْطِيَةُ، لِأَنَّ جَاحِدَ النِّعْمَةِ قَدْ أَخْفَى الِاعْتِرَافَ بِهَا كَمَا أَنَّ شَاكِرَهَا أَعْلَنَهَا.

وَضِدُّهُ الشُّكْرُ، وَلِذَلِكَ صِيغَ لَهُ مَصْدَرٌ عَلَى وِزَانِ الشُّكْرِ وَقَالُوا أَيْضًا: كُفْرَانٌ عَلَى وَزْنِ شُكْرَانٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ الْكُفْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَشَدُّ صُوَرِ كُفْرِ النِّعْمَةِ، إِذِ الَّذِي يَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ قَدْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ إِذْ تَوَجَّهَ بِالشُّكْرِ لِغَيْرِ الْمُنْعِمِ وَتَرَكَ الْمُنْعِمَ حِينَ عَزْمِهِ عَلَى التَّوَجُّهِ بِالشُّكْرِ، وَلِأَنَّ عَزْمَ نَفْسِهِ عَلَى مُدَاوَمَةِ ذَلِكَ اسْتِمْرَارٌ فِي عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ، فَكَانَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِ الْكُفْرِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَرِدِ الْكُفْرُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ فِي الْقُرْآنِ لِغَيْرِ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.

وَقَلَّ وُرُودُ فِعْلِ الْكُفْرِ أَوْ وَصْفِ الْكَافِرِ فِي الْقُرْآنِ لِجَحْدِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَذَلِكَ حَيْثُ تَكُونُ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية 105)، وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة المائدة، الآية 44)، يُرِيدُ الْيَهُودَ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ فِي السُّنَّةِ وَفِي كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يُخْرِجُ مُعْتَقِدَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَلَالَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ.

وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ عَلَى ارْتِكَابِ جَرِيمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ إِطْلَاقًا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ بِالتَّشْبِيهِ الْمُفِيدِ لِتَشْنِيعِ ارْتِكَابِ مَا هُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ يَتَشَبَّثُونَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ فَيَقْضُونَ بِالْكُفْرِ عَلَى مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ فِي إِطْلَاقَاتِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَفِرَقُ الْمُسْلِمِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَدْخُلُ فِي مَاهِيَّةِ الْكُفْرِ وَفِي أَنَّ إِثْبَاتَ بَعْضِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ –تَعَالَى- أَوْ نَفْيَ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَنْهُ –تَعَالَى- دَاخِلٌ فِي مَاهِيَّةِ الْكُفْرِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذَنْبٍ أَوْ ذُنُوبٍ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَدِ ارْتُكِبَتِ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخُلَفَاءِ فَلَمْ يُعَامِلُوا الْمُجْرِمِينَ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الدِّينِ، وَالْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ الْعُصَاةِ، خَطَرٌ عَلَى الدِّينِ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى انْحِلَالِ جَامِعَةِ الْإِسْلَامِ وَيُهَوِّنُ عَلَى الْمُذْنِبِ الِانْسِلَاخَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُنْشِدًا:

أَنَا الْغَرِيقُ فَمَا خَوْفِي مِنَ الْبَلَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِ
وَلَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ لِلَّهِ لَا تُنَافِي كَمَالَهُ وَلَا نَفَى صِفَةً عَنْهُ لَيْسَ فِي نَفْيِهَا نُقْصَانٌ لِجَلَالِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفِرَقِ نَفَوْا صِفَاتٍ مَا قَصَدُوا بِنَفْيِهَا إِلَّا إِجْلَالًا لِلَّهِ –تَعَالَى- وَرُبَّمَا أَفْرَطُوا فِي ذَلِكَ كَمَا نَفَى الْمُعْتَزِلَةُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَجَوَازَ رُؤْيَةِ اللَّهِ –تَعَالَى-، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَرْقِ أَثْبَتُوا صِفَاتٍ مَا قَصَدُوا مِنْ إِثْبَاتِهَا إِلَّا احْتِرَامَ ظَوَاهِرِ كَلَامِهِ –تَعَالَى-، كَمَا أَثْبَتَ بَعْضُ السَّلَفِ الْيَدَ وَالْإِصْبَعَ مَعَ جَزْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُ الْحَوَادِثَ.

فمن مآخذ العلاّمة ابن عاشور على الخوارج: “إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ النَّازِلَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَوَضَعُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَجَاءُوا بِبِدْعَةِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ بِالذَّنْبِ، وَقَدْ قَالَ الْحَرُورِيَّةُ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ التَّحْكِيمِ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (سورة يوسف، الآية 40؛ سورة يوسف، الآية 67؛ سورة الأنعام، الآية 57)، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ وَفَسَّرَهَا فِي خُطْبَةٍ لَهُ فِي نَهْجِ الْبَلَاغَةِ” (ص 212-ص 213، الجزء الثّاني من طبعتنا لموسوعة التّحرير والتّنوير).

وهاك ما قاله سيّدي محمّد الطّاهر بن عاشور -رحمه الله- في بعض فرق غلاة الشّيعة في تأويلاتهم للقرآن الكريم على النّهج الباطني، وفيه دلالة واضحة على كون شيخنا الفاضل يقصي نهائيًّا إمكانيّة حمل شبهة الكفر على أكثر فرق المسلمين غلوًّا وشططًا في تأويلها للمتشابه من قول الحقّ: “وَإِذْ قَدْ تَقَصَّيْنَا مَثَارَاتَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَبَيَّنَّا لَكُمُ الْأَشْيَاءَ وَالْأَمْثَالَ، بِمَا لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلِاشْتِبَاهِ مِنْ مَجَالٍ، فَلَا نُجَاوِزُ هَذَا الْمَقَامَ مَا لَمْ نُنَبِّهْكُمْ إِلَى حَالِ طَائِفَةٍ الْتَزَمَتْ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا، وَصَرَفُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمَا سَمَّوْهُ الْبَاطِنَ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ مُتَضَمِّنًا لِكِنَايَاتٍ وَرُمُوزٍ عَنْ أَغْرَاضٍ، وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ، عُرِفُوا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَاطِنِيَّةِ فَلَقَّبُوهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي عَرَفُوهُمْ بِهِ، وَهُمْ يُعْرَفُونَ عِنْدَ الْمُؤَرِّخِينَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ مَذْهَبَهُمْ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّادِقِ، وَيَعْتَقِدُونَ عِصْمَتَهُ وَإِمَامَتَهُ بَعْدَ أَبِيهِ بِالْوِصَايَةِ، وَيَرَوْنَ أَنْ لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِمَامِ هُدًى مِنْ آلِ الْبَيْتِ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ الدِّينَ، وَيُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ، وَلَمَّا تَوَقَّعُوا أَنْ يُحَاجَّهُمُ الْعُلَمَاءُ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ رَأَوُا أَنْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ تَأْوِيلِ تِلْكَ الْحُجَجِ الَّتِي تَقُومُ فِي وَجْهِ بِدْعَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ خَصُّوهَا بِالتَّأْوِيلِ وَصَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى الْبَاطِنِ اتَّهَمَهُمُ النَّاسُ بِالتَّعَصُّبِ وَالتَّحَكُّمِ ؛ فَرَأَوْا صَرْفَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَبَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ رُمُوزٌ لِمَعَانٍ خَفِيَّةٍ فِي صُورَةِ أَلْفَاظٍ تُفِيدُ مَعَانِيَ ظَاهِرَةً ; لِيَشْتَغِلَ بِهَا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْحُكَمَاءِ، فَمَذْهَبُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَمَذْهَبِ التَّنَاسُخِ وَالْحُلُولِيَّةِ، فَهُوَ خَلِيطٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ طُقُوسِ الدِّيَانَاتِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَبَعْضِ طَرَائِقِ الْفَلْسَفَةِ وَدِينِ زَرَادَشْتَ.

وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَحِلُّ فِي كُلِّ رَسُولٍ وَإِمَامٍ، وَفِي الْأَمَاكِنِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَنَّهُ يُشْبِهُ الْخَلْقَ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ-، وَكُلُّ عَلَوِيٍّ يَحِلُّ فِيهِ الْإِلَهُ، وَتَكَلَّفُوا لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمَا يُسَاعِدُ الْأُصُولَ الَّتِي أَسَّسُوهَا.
وَلَهُمْ فِي التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ ثَقِيلَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ (سورة الأعراف، الآية 46) أَنَّ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ الْأَعْرَافُ هُوَ مَقَرُّ أَهْلِ الْمَعَارِفِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ. وَأَنَّ قَوْلَهُ –تَعَالَى-: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ (سورة مريم، الآية 71)، أَيْ لَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ جَوَازِهِ عَلَى الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ إِمَّا فِي صِبَاهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. وَإِنَّ قَوْلَهُ- تَعَالَى-: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (سورة طه، الآية 43)، أَرَادَ بِفِرْعَوْنَ: الْقَلْبَ.

وَقَدْ تَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُلَقَّبِ بِـالْمُسْتَظْهِرِيِّ، وَقَالَ: إِذَا قُلْنَا بِالْبَاطِنِ، فَالْبَاطِنُ لَا ضَبْطَ لَهُ، بَلْ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْخَوَاطِرُ، فَيُمْكِنُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى اهـ. يَعْنِي: وَالَّذِي يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةٌ لَهُمْ يُمْكِنُ أَنْ نَقْلِبَهُ عَلَيْهِمْ، وَنَدَّعِيَ أَنَّهُ بَاطِنُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ لِاسْتِنَادِهِ لِلُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ مِنْ قَبْلُ.

وَأَمَّا الْبَاطِنُ، فَلَا يَقُومُ فَهْمُ أَحَدٍ فِيهِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، وَلَا إِخَالُهُمْ إِلَّا قَائِلِينَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ قَرَاطِيسِهِمْ قَالُوا: “إِنَّمَا يُنْتَقَلُ إِلَى الْبَدَلِ مَعَ عَدَمِ الْأَصْلِ، وَالنَّظَرُ بَدَلٌ مِنَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ، فَهُوَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَالْإِمَامُ هُوَ خَلِيفَتُهُ، وَمَعَ وُجُودِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُبَيِّنُ قَوْلَهُ: فَلَا يُنْتَقَلُ إِلَى النَّظَرِ” اهـ، وَبَيَّنَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ الْعَوَاصِمِ شَيْئًا مِنْ فَضَائِحِ مَذْهَبِهِمْ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ هُنَا.

فَإِنْ قُلْتَ فِيمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَحَدًّا وَمَطْلَعًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا.

قُلْتُ: لَمْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بَلْهَ الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِرِوَايَتِهِ عَنْهُ؟ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَظَهْرُهُ التِّلَاوَةُ وَبَطْنُهُ التَّأْوِيلُ، فَقَدْ أَوْضَحَ مُرَادَهُ إِنْ صَحَّ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّهْرَ هُوَ اللَّفْظُ، وَالْبَطْنَ هُوَ الْمَعْنَى، وَمِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ تَفْسِيرُ الْقَاشَانِيِّ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَبْثُوثٌ فِي رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ”. (ص 64 إلى ص 65 الجزء الأوّل من تحقيقنا لموسوعة التّحرير والتّنوير).

فهاتوا برهانكم إن كنتم من الصّادقين.

*استاذ جامعيّ

شارك رأيك

Your email address will not be published.