الرئيسية » تونس و سياستي البلاك آوت و الوايت آوت

تونس و سياستي البلاك آوت و الوايت آوت

التعتيم هو أن تبني أسوارا أمام المعلومة وتُطوّق هياكلها الرسمية.

لضمان ديمومتها الحقيقية و الافتراضية تلجأ الدول في أغلبها إمّا إلى حجب المعلومة و التغطية عليها أو إلى تبييضها و التصرّف فيها. و هذا يدخلُ في إطار سياستي البلاك آوت (blackout) و الوايت آوت (whiteout) من خلال ثنائيتي الظّلام و النور و التسويد و التبيض فكلاهما غير مرغوب فيه لأنّهما وسائل للتعمية اللونية و التحكّم العمودي في إرادة المواطن.

بقلم ميلاد خالدي

البلاك آوت و المنفذ الحرّ…

 في أبيات له حول حجب المعلومة، يقول الشاعر السوري محمد الماغوط : “هناك تعتيم إعلامي و تعتيم سياسي… و تعتيم ثقافي و فوق ذلك انقطاع التيّار الكهربائي كلّ نصف ساعة ومع ذلك لا يتحدّثون في هذه الأيّام سوى عن الشفافية..!”

تلك هي تجليات التعتيم، أن تبني أسوارا أمام المعلومة وتُطوّق هياكلها الرسمية، لأنّ الدولة تعلم أنّها خاسرة في هذه السباق، و حتى و إن تسربّت فتبقى رهينة التجارة الموازية و هنا أقصد وسائل التواصل الاجتماعي التي تحتكر المعلومة. لكنّها في المقابل تظل الدولة قاصرة إذا لم تقطع مع الإشاعات و التسريبات و تنشر الأخبار الصحيحة في إبّانها دون مواربة أو تلفيق.

البلاك آوت في تصوّره الواسع هو حضر تجوّل ليلي حيث تنطفأ فيه الأضواء و تنعدم فيه الحركة و التواصل تعود إليه الدول وقت الأزمات لأنّها تعتبر أنّ الظلام رديف السلطة و القوّة، و العكس صحيح فالنور هو ضعف للدولة و عقبة أمام تسييرها.

البلاك آوت يتناسب مع الفئات الرافلة في الجهل إذ ترضى به و تستأنس به لأنّه لا يكلّف لها شيئا سوى عبودية و تبعية و “تفريخ ليلي حيواني” أمّا المجتمع الحرّ فهو الذي يطلب المنافذ الحرّة من قبيل المعلومة و الخبر و البرنامج و التوجّه، لأنّها تخوّل له الانعتاق و تحقيق  إنسانيته الكاملة. مع أنّ الوايت آوت Whiteout هو ضديد البلاك آوت Blackout فهذا لا يعني أنّ الأوّل هو الذي تطلبه الدول الديمقراطية فالوايت آوت هو منهجية أخرى لتبييض الأخطاء و الهنات و حتى “الكوارث” بيد أنّ الأمر لا يقتصر على وضع البياض بدل السّواد إنّما  كتابة حقائق أخرى بدل عنها.

الوايت آوت و الرجوع إلى الوراء…

 إذا كان البلاك آوت تعتيما فالوايت آوت هو تبيض و تزييف للمعلومة و الخبر، و لا أدري إن كان التلميع من عناصر التبييض أم لا، لكن ماهو معلوم أنّه يقع الالتجاء إلى سياسة التبييض، فظاهرة Whiteout هي حالة جويّةّ ثلجية بالأساس حين تنعدم الرؤية و يتعطّل السير وتتعثّر الخطوة و بالتالي يصعب النفاذ. ذلك النفاذ إلى بواطن الأشياء لمعرفة كيف تشتغل الأشياء و كيف تتحرّك السلطة داخل القصر و في رحاب الوزارات دون نسيان طبعا أنّ الوايت آوت هو سلوك القوّي على الضعيف، وأثر الأبيض على الأسود.

حين ندّعي “أنّ الحقوق والحريّات مضمونة أكثر من أيّ وقت مضى” فنحن هنا بالضرورة  نقف على ناصية التعتيم الأبيض، لأنننا نعلم أنّ سوادنا يجب أن يُمحَى بالسائل الأبيض المُعدّ لذلك الغرض. غرض ماذا، غرض كتابة  تاريخ جديد مُلفّق وتمويهي، نُرضي به الآخر و نقمع به ذوينا و خُصمونا على حدّ السّواء. ما يُميّز الوايت آوت أن صاحب السلطة يعود إلى الوراء كي يُتمّ المهمّة، فهو مولع بالرجوع على الأعقاب و لو الأعقاب لما كان لوجوده معنى أو موجب. خلاصة القول إن كانت السياسة تتغيّر حسب الألوان من الأسود إلى الأبيض و ليس العكس فإنّ  قيمتهما الضوئية يقع تقييمها استناد إلى كميّة النور اللذان يجلبانه لا سيّما إذا أدركنا سلفا أنّ الأسود و الأبيض لونان يغشيان و يُعربدان باسم السلطة و السيّد.

من يريد أن يفهم كيف يشتغل النظام في علاقته بالرسالة و المعلومة والمواطن ما عليه إلاّ أن يذهب رأسا إلى البلاك آوت والوايت آوت لأنّهما يُمعنان في التعمية و التورية و تأبيد الجهل و  ‘الكرسي’ وهذا ما لا نطيقه.

كاتب تونسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.