الميليشيات العربية : أدوات هدم وتمرّد داخلي

طرحت فكرة  إدماج الجماعات المسلحة وبناء هياكل نظامية محلها  في السنوات الأخيرة وفي بعض الدول العربية. ولا يستبعد أن يطرح هذا الاقتراح بالنسبة للسودان لاحقا بالرغم من صعوبته وخطورته.

بقلم العقيد محسن بن عيسى

كانت الحروب ولا تزال تعبيرا أصيلا عن كل عصر، ولئن كانت أسبابها عديدة فإنّ أبرزها الاختلاف في الهوية أو الرغبة في زيادة الثروة والمكانة والسلطة، وصُورها الانقلاب والاستعمار والسيطرة على الثروات، أو الانتقام.  وبحسب  كلاوزفيتس، يتعيّن الحكم على كل عصر وحروبه في ضوء خصائصه الفريدة وملامحه المميّزة واهتماماته، بل حتى كوابيسه. وتشير حالات بعض الدول العربية وآخرها السودان، أنّ جملة الأسباب  القائمة لا تختلف عن المعهودة مع خصائص هذه الحرب وظروفها طبعا.

مُعضلة الكيانات  المسلّحة

ظهرت الميليشيات عموما في العالم العربي منذ الحرب الأمريكية على العراق سنة 2003، حيث شكّل القرار الأمني بحلّ الجيش الوطني العراقي منطلقا لتوظيف العنف لسدّ الفراغ الأمني ومن ذلك صعود جماعات مسلحة طائفية. وخلقت الثورات العربية بعد 2011 بيئة مناسبة بعد سقوط بعض الأنظمة لتزايد هذه الميليشيات للسيطرة على الدولة أو “إقتصاد الدولة”، وإشاعة حالة من الإضطراب وعدم الإستقرار بها.

وتُعطي العراق والصومال ولبنان واليمن وسوريا وأخيرا السودان أمثلة عن هذه الكيانات والجهات المدعّمة لها.  ولقد أثبتت الوقائع أن غياب الدولة وضعف المؤسسات الأمنية والسياسية كانا من العوامل التي تسببت في صعود هذه الظاهرة ليس فقط على مستوى العنف المسلح بل وكذلك في ممارسة الأنشطة الإجرامية.

تخوض المجموعات المسلحة حربا من الجيل الثاني بمعنى “حرب العصابات” وهي تشبه حروب الجيل الأول التقليدية، ولكنها تدور بين جيش نظامي وتشكيلات غير نظامية لفرض السطوة والسيطرة ويجري القتال فيها على معنى حرب الشوارع. تختلف هذه الحرب عن الحروب الاستباقية أو الوقائية  التي تتميز بالسرعة والمرونة أو حروب الجيل الرابع “غير المتماثلة” وهي حروب أمريكية صرفة.

الإشكالية في السودان تتمثل في أنّ الميليشيات لم تنشأ في أصلها كحركات سياسية  تستهدف التغيير السياسي بل عملت و تعمل كتشكيلات مرتزقة، وهذا يفاقم الوضع  القائم ويهدّد وحدة وسيادة الدولة بل أمن واستقرار المنطقة كلها.

خطورة الحالة السودانية

قوّات الدعم السريع هي في الأصل ميليشيا شبه عسكرية تشكّلت من عناصر الجنجويد، واستعملتها الحكومة السودانية زمن حكم البشير لمحاربة المتمردين في دارفور مع مهام أخرى على حدود ليبيا لوقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا. ويبدو أنّ بعض الدول وجدت في هذه الميليشيا وسيلة لفرض سيطرتها على السودان أو حماية أمنها في المنطقة وخارجها.

وغير خفي أنّ ارتفاع عدد أفراد الميليشيات والمقدّر بـ 100 ألف فرد أي حوالي نصف الجيش السوداني تقريبا أثار تساؤلات عديدة حول القاعدة التي بُني عليها نفوذها. فهي خارجة عن إشراف الجيش وليست “قوة وسطى نظامية”، ومع ذلك لها وجود فعلي ضمن المجلس العسكري الذي ينوي قيادة البلاد في الفترة الانتقالية.

لا شك أن هناك أجندة أجنبية  تمنح هذه الميليشيا عمرا طويلا وانتشارا أوسع  وقدرة تنظيمية على إعادة التموقع الجغرافي والانبعاث الذاتي.  لقد أصبح من الصعب التكهن بمستقبل هذه الحرب التي حملت تحولات جوهرية في المشهد الاستراتيجي العربي والإقليمي.

الخطأ والصواب في ادماج الميليشيات

طرحت فكرة  إدماج الجماعات المسلحة وبناء هياكل نظامية محلها  في السنوات الأخيرة وفي بعض الدول العربية. ولا يستبعد أن يطرح هذا الاقتراح بالنسبة للسودان لاحقا بالرغم من صعوبته وخطورته. يغيب على البعض أنّ مثل هذه الأجهزة التي تعرف بـ “القوات الوسطى”، يُشترط أن يكون تعدادها عند بعثها  في حدود 15  في المائة من تعداد القوات العسكرية، وأن تكون لها خلفية وطنية.

وتماشيا ما تم ذكره فكل قوات المقاومة التي أُدمجت في بلدان المغرب العربي على سبيل المثال هي جزء من الحركة الوطنية وعرفت الكفاح المسلح ضد الاستعمار وليس ضدّ أبناء الشعب الواحد، ولا يشوب سجل كفاحها أي محاولة تمرّد على الدولة بل التضحية من أجل بنائها.

وإن تُعرف  هذه القوات بـ “الحرس الوطني” في تونس، و”الدرك الملكي” بالمغرب، والدرك الجزائري وأسماء أخرى كالأمن المركزي في مصر فقاسمها المشترك هو تشكيلها كقوة عمومية وليست طائفية أو محليّة أو دينية. عديد “القوات الوسطى” الأفريقية  التي أنشئت عند الاستقلال تحمل تسمية “الجندرمة” لأنها استأنست مثل دول المغرب العربي بالتجربة الفرنسية هيكلة وتنظيما ولم تتطور عبر التاريخ عبثا.

القاعدة أن تعتمد الدول تدرّجا في قواتها النظامية والعسكرية كصمّام أمان لأنظمتها، انطلاقا من الشرطة فالحرس أو الدرك الوطني (القوة الوسطى) فالقوات المسلّحة، مع اختلاف التعداد والعتاد بينها. قد تتغيّر مهام هذه “القوات” من دولة إلى دولة ولكن تبقى لها تخصصات مرتبطة بالضابطة العدلية والضابطة الإدارية وحفظ النظام، وإمكانيات تفوق الشرطة ولها دور مساند للجيش ولكن دون قدرات القوات المسلّحة.

تعود فكرة “القوة الوسطى” إلى تجربة فرنسا مع الجندرمة منذ سنة 1191 ومرورها بتسع مراحل تطور حتى سنة 1950 وظهورها في منظومة جديدة بداية من 1989. وكذلك إلى فكرة تأسيس قوة الحرس الوطني الأمريكي سنة 1636 من طرف السلطة الاستعمارية الإنجليزية، وإعادة تشكيله سنة 1933 كوحدة ذات مهام محلية وخارجية. وترجع كذلك إلى قرار تأسيس قوات الدرك التركية زمن الضبطية المعروفة باسم “زابتيا” وإلى سنة 1839.

هناك عدم واقعية في رسم السياسة العسكرية – الأمنية اللازمة تجاه الميليشيات الحاملة للسلاح والتي لا يمكن بأي حال ان تصبح نظامية فسلوكها كان ولا يزال مزيجا من الولاء الضيق والكراهية.

ضابط متقاعد من الحرس الوطني.

شارك رأيك

Your email address will not be published.