وداعا رفيقي وأخي الصادق بن مهني : ذكراك ستبقى منارا للنضال من أجل عالم أكثر حرية وعدلا

في التدوينة التالية التي نشرها أمس الخميس 29 جويلية 2023 الكاتب و الباحث الجامعي يرثي رفيق الدرب والنضال الصادق بن مهني أحد وجوه اليسار الثوري في تونس خلال الخمسين سنة الأخيرة و والد المدونة و المناضلة المرحومة لينا بن مهني.

بقلم محمد الشريف فرجاني

بعد عامين ونصف من رحيل ابنته لينا، وبعد شهور من مقاومة مرض عضال كان يعلم، وربما يأمل، أنه سوف يعجل بإنهاء مشوار لم يعد له معنى منذ أن فقد “حبيبته” لينا، كما كان يتوجه إليها بعد أن فارقته، ها هو الصادق يتركنا من جديد يتامى، ويأخذ منا رحيله قطعة أخرى من حياتنا التي تفقد كل مرة ركنا من أركانها مع موت كل رفيق …

عندما قابلته آخر مر، في بداية شهرأفريل 2023، في معرض الكتاب، وهو يغالب الألم… ويجمع الكتب لمكتبات لينا وللمحرومات والمحرومين من المطالعة في السجون وفي المناطق البعيدة عن الحواضر، حرص على أن يأخدني جانبا ليذكرني بحديث دار بيننا في سيارته وهو يصطحبني ليلا إلى العائلة قرب منزل بورقيبة، بعد اجتماع دعيت له في تونس، وكان من بين من حضروه ليغتنم فرصة عودتي من فرنسا لنتقابل… وربما ليحثني على التمعن فيما قاله عن ظروف اعتقاله في شهادته “سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرا”… وليسألني عن المسكوت عنه في شهادتي “الحبس والحرية”… وكأنه كان يريد أن “أفهم أنه فهم” ما لم أقل ولماذا كان “سكوتي عن الكلام المباح” وعما يجب قوله… حسب ٍرأيه… فقد استغرق الحديث حول هذا الموضوع كامل السفرة، وقد كانت طويلة بسبب تهاطل المطر…

ألام و شجون حول التجربة السجنية

ومما قاله لي الصادق لأول مرة، ولم أكن أعلمه قبل ذلك، رغم سنوات الحبس التي قضيناها معا ولقاءاتنا العديدة منذ أن غادرنا السجن سنة 1980، إنه قبيل إيقافه قرر مغادرة منظمة “آفاق-العامل التونسي” وأعلمني بظروف اعتقاله التي كنت أجهلها بحكم أني لم أتعرف عليه إلا في السجن… وقد تم إيقافة قبيل عودتي من فرنسا، بصورة سرية صحبة فتحي بن الحاج يحيى، في أكتوبر 1974. وقد تحدث عن ملابسات اعتقاله وعن تجربته السجنية في شهادته المذكورة، كما تحدث عنها حمة الهمامي الذي عايشه في السرية قبل الاعتقال، وكان أول من تقاسم معه التجربة السجنية.

ومما يستحق الذكر في هذا الصدد أن الصادق، رغم اعتزامه مغادرة المنظمة التي حوكمنا بسبب الانتماء لها، كان من القلائل، مع حمة الهمامي وأحمد بن عثمان، ممن لم يتكلموا تحت التعذيب، حتى أنه رفض حتى الكشف عن إسمه، وعندما ذكرإسمه بعد أسبوع أو أكثر، كانت فرحة أعوان بوليس سلامة الدولة إلى درجة أنهم كفوا عن استنطاقه واكتفوا بمجابهته بحمة الهمامي للنيل من معنويات هذا الأخير، ولكن ذلك لم يزدهما إلا المزيد من الاعتزاز لما أظهراه من صمود.

وخلال تجريتنا السجنية، عرفت الصادق قريبا من حمة، بسبب ما عاشاه معا في السرية وبعد اعتقالهما، ثم قريبا من جلبار نقاش ونور الدين بن خذر ورشيد بن للونة، على الرغم مما بينهم من اختلافات لم اكتشفها إلا بعد السجن، وكذلك من فتحي بن الحاج يحيى ومحمد الخنيسي وأحمد بن عثمان، وغيرهم ممن لم تكن لي معهم نقاشات سياسية ابتداء من تجميعنا في سجن برج الرومي (في نهاية 1976) وبداية التباينات بين مناصري التوجه الصيني (ونظرية “العوالم الثلاثة”) والتوجه الألباني بعد ابتعاده عن الصين، والرافضين لهذين التوجهين من منطلقات مختلقة، منها ما كان أساس تقارب الصادق بن مهني مع مجموعة جلبار ونور الدين، ومنها ما كان من موقع يرفض الانخراط في أي مجموعة وبدأ يبحث عن طريقه دون المشاركة في نقاشات مع أي من الاتجاهات، إلا في ما يتصل بعلاقتنا بالسلطة وبما نتخذه من مواقف رسمية تجاه ما يجد من أحداث – مثل الإضراب العام (في جانفي 1978).

ولكن هذه التباينات لم تأخذ طابعا عدائيا يؤثر على علاقات التضامن فيما بيننا، ولا على مواجهتنا للسلطة على أساس مواقف ثابتة قوامها الدفاع عن حقوقنا كمساجين سياسيين. كما حرصنا على أن لا نقحم في خلافاتنا جبهة العائلات والمدافعات والمدافعين عن حقوقنا كمساجين سياسيين.

وعلى هذا الأساس ظلت علاقات المحبة بيني وبين الصادق بن مهني، وعدد من الرفاق، وثيقة، وهو ما جعلنا نبقى أصدقاء بغض النظر عما طرأ على مواقفنا من تطورات. وكنت من القلائل الذين كان الصادق يقرأ عليهم روائعه التي يكتبها قبل أن يقوم بحرقها، وقد كانت له كتابات فنية غاية في الجمال، ولكنه كان يسرع بحرقها بعد إطلاع من يتوسم فيهم قابلية لتذوقها، ولا أدري لماذا كنت من المحظوظين الذين كان يطلعهم على إبداعاته.

رمز من رموز الثبات على المبادئ

ومما أذكره من مواقف الصادق بن مهني ونحن في الأشهر الأخيرة من تجربتنا السجنبة، رفضه أن يكون التنديد بإعدام عدد ممن قاموا بعملية قفصة (في جانفي 1980) على أساس سياسي. فرغم أننا قمنا جميعا بإضراب جوع للاحتجاج على هذه الإعدامات، دار بيننا نقاش طويل للاتفاق على نص رسالة نوجهها للسلطة وللرأي العام، كما تعودنا عند قيامنا بكل إضراب. وقد تفرد الصادق بموقف لم نتعوده بصفتنا مساجين سياسيين يهمهم اتخاد موقف سياسي من الأحداث السياسية. وكان موقفه أن نندد بالإعدام بغض النظر عن كل الاعتبارات السياسية ودون التعرض لأساب ولإطار الأحداث التي أدت للإعدامات، فكان بذلك سباقا لما سيصبح فيما بعد من بديهيات الدفاع عن حقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في الحياة والرفض المطلق لعقوبة الإعدام أيا كانت مستندات الحكم وجريمة المحكوم عليه بالإعدام.

وقد كان الصادق، مع محمد الخنيسي وفتحي بالحاج يحيى ونور الدين بعبورة، من الوفد الذي مثلنا في مقابلة بورقيبة قبل إطلاق سراحنا (في غرة جوان 1980) وقد رأت السلطة والرأي العام بهذه المناسبة وحدة موقفنا ووفاءنا لما يجمع بيننا من مبادئ رغم كل ما جد بيننا من اختلافات وتباينات، وكان الصادق رموز الثبات على هذه المبادئ التي ظلت تجمع الكثير منا إلى اليوم رغم كل مر علينا من أحداث وتقلبات منذ أن عرفت الصادق سنة 1975.

ومما كان يذكره أبي، وتذكرني به كلودات زوجتي، أن الصادق جرى نحوهما، وهوخارج من السجن قبل التوجه إلى أفراد عائلته، ليبشرهما بأني ضمن المفرج عنهم وبأني كنت بصدد القيام بإجراءات السراح، ولم يكونا يعلمان إن كنت ممن شملهم العفو الرئاسي.

وقد شاءت الحياة أن ينجب الصادق لينا وان ترث عنه ما جعل منها رمزا من رموز الثورة … قبل أن ترحل ويأخذ عنها مشعل نضالاتها من أجل حرية الإبداع والتعبير والعمل على توفير الكتب للمحرومات والمحرومين منها في السجون وفي المناطق البعيدة عن محاضن الثقافة. فكانت تلك آخر معاركه وهو يقاوم المرض مسنودا برفيقة دربه، أم أمين ولينا، الوفية آمنة بن غربال، وبدعم من أخيه فرحات بن مهني، ومن رفيقاته ورفاقه، وكذلك من رفيقات ورفيقات لينا. فإليهن~هم جميعا أحر التعازي والوعد بالمواصلة على درب الصادق الذي ستبقى ذكراه خالدة تنير طريق النضال من أجل عالم أقل ظلما وأكثر حرية وعدالة.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.