غـــزّة و سياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية


إن تاريخ الصراع مع إسرائيل ليس غائبا عن الأذهان، فدولة الاحتلال غير مستعدة لتقديم أي تنازلات ما لم تكن مجبرة على ذلك. لا شكّ أنّ ما يحصل في القطاع اليوم يغيّر الكثير من المعادلات، وعلى أهميته ينبغي عدم الاكتفاء بالمواجهة المسلحة للفصائل، والتفكير في إحداث تغيير في التوازنات عبر جبهة فلسطينية عربية ودفع الصراع ليعود إلى نقطته الأصلية صراع عربي إسرائيلي.

بقلم العقيد محسن بن عيسى

لو كانت الأمة العربية بخير وكانت دولها متضامنة، متّفقة، فعالة لما وصل الفلسطينيون إلى ما هم عليه من تشريد وقهر ومعاناة ولا عاشت غزة هذه المجزرة.

ثغرات في جدار المقاومة

يعدّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والذي ما يزال قائما من أطول الصراعات في تاريخ العالم الحديث ومن أخطرها أيضا، ليس على منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل على العالم بأسره. ومن أبرز أسباب ذلك السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة في إدارته بما يتفق ومصلحتها ومصلحة إسرائيل حليفتها القوية في المنطقة. يضاف إلى ذلك الانقسام والاقتتال الفلسطيني وتداعياته، والذي يحصل لأول مرة في تاريخ الشعب الفلسطيني ويعد من أكبر الأحداث الداخلية خطورة.

يعود جذور الانقسام الفلسطيني الى اندلاع انتفاضة 1987، ثم إلى اتفاق أوسلو الذي جاء ليحدث شرخا في التركيب البنيوي للشعب الفلسطيني.

بُنيت الفصائل على الاقتتال ولم تبنَ على تنظيم قادر على استيعاب الآخر لتتأزم العلاقة بعد الانتخابات التشريعية الثانية سنة 2006. شكّلت هذه الانتخابات صدمة لكل الأطراف سواء كانت فلسطينية أم دولية. سيطرت حماس على المجلس التشريعي وشكلت الحكومة العاشرة، لتدخل في صراع مع حركة فتح على الصلاحيات خسر فيه الشقان وعانى معهما الشعب الفلسطيني. لم يكن من السهل على حركة فتح الانتقال من صف القيادة للسلطة على مدى 13 سنة إلى صف المعارضة.

كان التوتر قائما منذ سيطرة حماس على قطاع غزة في جوان 2007. لقد رفّعت إسرائيل من سقف تصعيدها المادي والمعنوي بإعلان القطاع ” كيانا معاديا”، واتبعت بمقتضى ذلك سلسلة من القيود الإضافية. وعرفت الساحة الفلسطينية احتكاكا وتصادما واشتباكا لخلفيات متعددة بين مسلحي فتح وحماس والأجهزة التابعة لهما.

ليس جديدا حرمان غزة من الغذاء والماء والدواء وغلق المعابر في مثل هذا المناخ. لقد لجأت إسرائيل مرارا وتكرارا إلى سياسة “العصا والجزرة” في هكذا قضايا إنسانية وفي حقبات زمنية متتالية. ولا زالت تلعب على الوتر المرهق في الخلاف القائم بين منهجين سياسيين مختلفين في القطاع والضفة.

تفيد المراجعة التاريخية منذ 75 سنة أنّ الهمّ الأمريكي هو نفسه في كل الظروف “أمن إسرائيل” و “حق دفاع إسرائيل عن نفسها”، ولكن الأمن الإسرائيلي هو التحدي الأخطر على الأمن الفلسطيني والعربي.

هناك فصلٌ جديدٌ من فصول الصراع على النفوذ الإقليمي تتموقع فلسطين في قلبه مرة أخرى. وللعبرة تفيد التجربة التاريخية أن فلسطين وقضيتها وُضّفت من قِبَل كثيرين، دول ومنظمات، لغايات ليس لها علاقة بالتحرير أو تحقيق الأهداف الوطنية للفلسطينيين. ولكنها عرفت جهودا مخلصة وصادقة حتى وان لم تتوفّق الى الترجمة على أرض الواقع.

جدلية الحرب والسلام

الحرب اليوم ليست حرب حدود، بل حرب وجود. وأنّ ما يجري اليوم له خلفياته ودلالاته التي تنخرط في البنية الواسعة التي أسّس لها قانون القومية اليهودية الذي أصدره الكنيست الإسرائيلي سنة 2018 والذي لا يعترف إلا بوجود الشعب اليهودي في “إسرئيل” أي “فلسطين”، ويعتبر بقية المتساكنين مجرّد طوائف. قانون يتناسب مع مضمون وأهداف وعد بلفور وسياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة.

تقدم وسائل الإعلام قراءات مختلفة عن الحرب ومن بينها تلك التي تُحيلنا إلى فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها السياسية والأمنية والعسكرية بعد أكثر من شهر من المواجهة. حرب غذّت بصفة مباشرة أو غير مباشرة روح المقاومة لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وأحيت آمال أهالي الأسرى الفلسطينيين بإطلاق سراح أبنائهم قريبا خاصة بعد اشتراط تبييض السجون الإسرائيلية كشرط أساسي لأي صفقة مع حماس.

ثمة تباين في المواقف تجاه “طوفان الأقصى” فلسطينيا وعربيا في قرارها وتوقيتها وبعد تجاوز الـ 10 آلاف شهيد ونحو 27 ألف جريح. هناك من يرى أنّ العملية أعادت الأمور إلى نقطة الصفر على اعتبار أن إسرائيل تتربص بالشعب الفلسطيني، وتتبنى الدعوة لتدخل أممي يوقف همجية العدوان ويسمح بإدخال المساعدات الإنسانية. فيما يرى آخرون أن الوطن العربي تغيّر عما كان عليه في حربي 1967 و1973 نتيجة عديد التحولات الجذرية. بعض الدول اتجهت نحو التعايش ولو السلبي مع إسرائيل، واكتفت أخرى بالتنديد والدعم المالي أحيانا. ولكن ثمة ما يؤكد أنّ إعادة الاعتبار للدول العربية في هذه المنطقة وفي هذه المرحلة هو أكثر ما تخشاه إسرائيل على نفسها، لأنها تعيش وتقوى وتتفوّق على واقع عربي هو على خلاف ذلك.

وإذا تفحصنا وجهات النظر والمواقف الرائجة وبصرف النظر عن التلاعب والتورية فان التضحيات الجارية جعلت الفلسطينيين في نظر الأسرة الدولية طلاب حقوق بعد ما كانوا إرهابيين يجب القضاء عليهم والتخلص منهم. هناك تعاطف دولي كبير مع فلسطين سيكون له نتائج إيجابية في المستقبل إن عرف العرب كيف يستغلونه ويستثمرونه في خدمة القضية.

آمل أن ترتقي قرارات القمة العربية الطارئة يوم 11 أكتوبر إلى مستوى معاناة الشعب الفلسطيني وتتمسك بالمسائلة القانونية لإسرائيل عن جرائمها من خلال استراتيجية متكاملة.


ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني و كاتب.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.