حان وقت التقييم، فبعد أكثر من تسع سنوات ظهرت عديد الحقائق وسقطت الكثير من الأقنعة، وفشل من فشل وسقط من سقط، لكن البعض مازالوا يوهمون أنفسهم والناس بثورجية زائفة، وشعبوية مضحكة – مبكية، وحلول واهية، حولتهم إلى مصادر تندر وٱستهزاء وسخط أيضا.
بقلم مصطفى عطية *
هؤلاء ركبوا سروج الحراك الشعبي في الساعة الخامسة العشرين كما يقولون ، وٱرتقوا إلى المناصب العليا في غفلة من الجميع ، متدثرين بالفوضى التي عمت البلاد، وجهل الناس بالإنتخابات الديمقراطية، لكن بعد سنوات التردد الأولى إستعاد الشعب شيئا ولو قليلا من وعيه وعصف بهم، ومع ذلك مازال بعضهم لم يستفيقوا من هول صدمة السقوط ، واعتقدوا واهمين أنهم يحملون عصا سحرية لتغيير الأوضاع !
ها هم يعودون على سروج النصح والإرشاد وإطلاق المبادرات، كالتي جادت بها قريحة مصطفى بن جعفر صاحب “أحسن دستور في العالم” !!!
عناوين الفشل الذريع : منصف المرزوقي، حمادي الجبالي ومصطفى بن جعفر !
جميعهم من طينة واحدة وبيئة فوضوية مشتركة : منصف المرزوقي وحمادي الجبالي ومصطفى بن جعفر فقد كانوا عناوين الفشل الذريع وهم على كراسي الحكم ولما سقطوا من عليائها تحولوا إلى دعاة فكر إصلاحي ومبادرات إنقاذ !!! ، فالمنصف المرزوقي يرعد ويزبد في الفضائيات الخارجية المناوئة للبلاد ، مشككا في كل شيء حتى أخلاق التونسيين الذين كان يخطب ودهم في حملاته الإنتخابية ، ومصطفى بن جعفر ، الذي خلناه طلق العمل السياسي بالثلاث بعد فضيحة فشله المهين في الإنتخابات الرئاسية وخروج حزبه بخفي حنين في التشريعية يطلق المبادرات على اليمين والشمال ، وحمادي الجبالي إحترف التصريحات والبيانات النارية وكأن فترة رئاسته لحكومة الترويكا لم تكن حالكة وكارثية.
المرزوقي وتحويل قصر قرطاج إلى مرتع للمتطرفين
عندما حل محمد المنصف المرزوقي قادما من “منفاه الذهبي” كان الحراك الشعبي قد بلغ منتهاه وعمت الفوضى كافة مناطق البلاد ، ومن حسن حظه أن تسرع الماسكون الوقتيون بزمام السلطة وٱستجابوا لضغوطات إعتصامات ساحة القصبة التي قادها اليسار بغباء مفضوح ، ونظموا إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي كانت نتائجها كارثية بعد إقصاء الكفاءات السياسية ذات التجربة في إدارة مؤسسات الحكم من المشاركة فيها.
وهكذا وجد المرزوقي نفسه عضوا في المجلس بعد حصوله على بضعة آلاف من فواضل الأصوات !، وعندما إنطلقت مفاوضات تكوين السلطة الإنتقالية بين أكثر الأحزاب تمثيلا في ذاك المجلس، رفض أحمد نجيب الشابي التحالف مع حركة النهضة وحزب التكتل فٱلتجأ الأخيران إلى حزب المؤتمر ورئيسه منصف المرزوقي ووزعت الأدوار بينها : رئاسة الحكومة للنهضة حيث تبوأ حمادي الجبالي المنصب وهو المتهم قضائيا بالإرهاب والمشاركة في تفجير بعض النزل السياحية في سوسة والمنستير، وآلت رئاسة المجلس التأسيسي للتكتل وقائده مصطفى بن جعفر ورئاسة الجمهورية لمنصف المرزوقي زعيم حزب المؤتمر.
وبٱختصار دخل المرزوقي قصر قرطاج وسرعان ما حوله إلى مرتع للمتشددين والمحرضين على التطرف، يستقبلهم فيه وينظم لهم المآدب ويكرمهم !!! ثم تتالت القرارات والإجراءات والمواقف المضرة بالبلاد : توتر مع الجزائر وروسيا والإمارات ومصر، وخرق فاضح للقوانين الدولية بتسليم البغدادي المحمودي في صفقة لم تتضح معالمها إلى يوم الناس هذا، وقطع العلاقات مع سوريا تحت ضغوطات من تركيا وقطر، حتى تصاعد الروائح الكريهة من قصر قرطاج لتزكم الأنوف وتثير سخط المواطنين الملتاعين والمحبطين، وتعددت زيارات غلاة الرجعيين والظلاميين والإرهابيين ودعاة ختان الإناث وتحجيب الرضيعات إلى بلادنا لبث سمومهم في شبابنا، ونشطت خلايا تسفير المغرر بهم إلى بؤر التوتر و”جهاد النكاح ” وٱنهار الإقتصاد وتفشت الجريمة وتدهورت الأوضاع الإجتماعية بشكل غير مسبوق، ومع ذلك أصر المنصف المرزوقي على خرق الإتفاق الذي حدد مدة الرئاسة الوقتية بسنة واحدة وبقي ثلاث سنوات كاملة كانت حصيلتها مجموعة من الكوارث.
حمادي الجبالي يبشر بالخلافة السادسة
عندما صدر العفو التشريعي العام إستقبل محمد الغنوشي، وهوآخر وزير أول في النظام السابق ورئيس أول حكومة وقتية بعد الرابع عشر من جانفي، وقد سيطر عليه الرعب والإرتباك ، القيادي في حركة النهضة حمادي الجبالي وسأله عن مطالب حركته، فٱكتفى هذا الأخير بالقول : نريد “ترخيصا رسميا لحركتنا “!
كانت تلك هي البداية لكن الوقائع والأحداث أخذت نسقا متسارعا وأفضت إلى صعود حمادي الجبالي إلى رئاسة حكومة الترويكا الأولى بهيمنة حركة النهضة ومشاركة حزبي التكتل والمؤتمر، وبدأ حمادي الجبالي بٱنتهاك أول مبادئ الثورة ألا وهو صبغتها المدنية وذلك بتبشيره العلني بحلول “الخلافة السادسة” !!!
ومن يومها بقي الرجل وفيا لمبادئه وأهدافه فأدمج عشرات الآلاف من أتباع حركته في مؤسسات الدولة والمرافق العمومية حتى أغرقها في الإفلاس، وفسح المجال للحركات المتشددة للعمل والتحرك والإستقطاب بكل حرية كما حرص جاهدا على إختراق أجهزة الدولة والتمكن من مراكز القرار فيها ، فكانت النتائج درامية في كل المجالات دون إستثناء، وٱنهارت المنظومة الأمنية وتدهور الإقتصاد وأفلست خزينة الدولة وٱنتشر الإرهاب، وسقط العديد من الأبرياء ضحايا ومنهم بالخصوص شكري بلعيد ومحمد البراهمي ولطفي نقض.
مصطفى بن جعفر وفضيحة “أحسن دستور في العالم”
أما مصطفى بن جعفر، الذي يطل اليوم من غياهب النسيان لإطلاق مبادرة تتجاوز المؤسسات الدستورية، فلم يكن، وهو سليل المدرسة الدستورية، معارضا شرسا لنظام بن علي وحكمه، بل كان له مهادنا ومدافعا في بعض الحالات، وقد إستغل، بعد إندلاع حراك الرابع عشر من جانفي، وضعه كمعارض صالونات وديكور، ليلتحق بقوافل “الثوار”، وكما المرزوقي والجبالي، وجد نفسه رأسا من الرؤوس الثلاثة التي نصبوها لإدارة شؤون البلاد وقتيا ولمدة سنة واحدة إمتدت إلى ثلاث سنوات غصبا عن إرادة الشعب وخرقا للإتفاقيات، وكان نصيبه من الغنيمة رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، الذي شهد في عهده فصولا فلكلورية بلغ صيتها مشارق الدنيا ومغاربها وغدت مدعاة إستهزاء وتهكم.
لم يستطع السيد بن جعفر السيطرة على الفوضى تحت قبة المجلس، فصال الأميون والجهلة والإنتهازيون وجالوا كما شاؤوا، وصدرت قوانين وتشريعات عمقت أزمات البلاد وتركت الحبل على الغارب للفوضويين والمنفلتين والمتطرفين، وتكتل الذين لا يعملون ضد الذين يعلمون ووضعوا دستورا على مقاس المحاصصات الحزبية وتحت تأثيرات جانبية بعضها غير بريء، وينسب لمصطفى بن جعفر تباهيه بهذا “الإنجاز” ووصفه بأنه “أحسن دستور في العالم”، لتصبح هذه القولة أشهر النكت التي يتندر بها الناس.
اليوم يقف هؤلاء وأمثالهم لتقديم الدروس في الحكم الرشيد ! هكذا إنقلب سلم القيم والتقييم رأسا على عقب.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك