الرئيسية » تقييدات على الوضع في تونس!

تقييدات على الوضع في تونس!

القصرين 2016

بقلم محمد الحداد *

مباشرة بعد الزلزال السياسي الذي شهدته تونس أخيراً، عاش البلد انفجاراً اجتماعياً هائلاً في الفترة التي تزامنت مع الذكرى الخامسة للثورة، حتى أنّ العديد من وسائل الإعلام العالمية تحدّث عن نذر ثورة ثانية.

ومع ما في هذا التوصيف من مبالغة، فإنّ ما حصل كان استثنائياً وكشف عن حقائق يجدر بمنظّري «الثورجية» العربية الجديدة، وقد كانوا في الأثناء يحلّلون نتائج الثورات العربية من منطلق الخيال والأيديولوجيا وفي رفاهة الفنادق الفاخرة، أن يأخذوها بالاعتبار:

أوّلاً، حصل أوّل انفجار اجتماعي ضخم في تونس بعد الاستقلال يوم 26/1/1978، انتهى آنذاك بسقوط ثلاثمئة قتيل وآلاف الجرحى، ومنذ ذلك التاريخ أصبح كانون الثاني (يناير) عنواناً للتحركات الاحتجاجية، تمرّ في الغالب بأضرار محدودة، أو تتحوّل أحياناً إلى أزمات ضخمة.

والثورة التونسية تندرج في هذا السياق: فقد كانت دوافعها اجتماعية أساساً، مثل أحداث يناير 1978، وأحداث مدينة قفصة سنة 1980، وثورة الخبز سنة 1984. وطالما لا تحلّ المشاكل الاجتماعية العالقة، فإنّ هذه الهزّات العنيفة ستتواصل وتدخل البلاد كلّ مرة في تبعات خطيرة، وقد تنتهي في يوم ما إلى انفراط عقد الدولة وانهيار سلطتها في بعض المناطق البائسة.

ثانياً، إنّ ربط الثورة التونسية بسياقات ما دُعي بالربيع العربي والثورات العربية، هو ربط متعسّف إذا لم يأخذ بالاعتبار الخصوصية التي ذكرنا. فلئن اشتركت الثورة التونسية مع غيرها في قضايا الحريات أساساً، فقد اختلفت عنها في محورية الجانب الاجتماعي وفي تخلّصها من كلّ الخلفيات الدينية والعرقية والطائفية، بحكم التجانس النسبي للمجتمع التونسي. ومحاولة الإسلاميين في الخارج أوّلاً (التقاء القرضاوي ومرشد الثورة الإيرانية على تبنّيها بالتوازي أثناء خطبة الجمعة!) ثم في الداخل، هي التي حوّلت النقاشات الى وجهة أخرى غير سليمة. وقد انتهى الجميع في تونس، بمن فيهم المعتدلون من الإسلاميين، إلى وضع حدّ لهذا الانزلاق والالتقاء حول ضوابط للتعايش المشترك والنأي بتونس عن أن تكون اختباراً إقليمياً أو دولياً لغايات لا تفيدها في شيء.

ثالثاً، إنّ الوفاق الذي حصل بفضل الحوار الوطني سنة 2013، كان يهدف إلى توفير الظروف الملائمة لحلّ المشاكل الاجتماعية العالقة، ولم يكن في ذاته الحلّ لهذه المشاكل. إذ إنّ الوفاق لا يعني أنّ مشاكل البطالة والبؤس وضعف مستوى التعليم وتردّي الخدمات الصحية قد أخذت مسارها إلى الحلّ. وكلّ حكومات ما بعد الثورة أشبعت الشعب كلاماً ولم تقدّم له الحلول لمشاكله. وتتحمّل الحكومة الحالية مسؤولية خاصة لأنها تسلّمت السلطة في ظروف أفضل نسبياً من أوضاع عمل الحكومات السابقة، لكنها ظلّت تراوح مكانها لأسباب شرحناها سابقاً ولا نخالها تتغيّر بالتعديل الحاصل أخيراً.

والخطر هو أن يتحوّل الوفاق الوطني آلية لاقتسام الغنائم بين طبقة مستفيدة تنقطع عن الشرائح الواسعة التي لا تزال تكابد الأوضاع ذاتها، ناهيك عن أنّ عدد العاطلين من العمل يعادل بعد خمس سنوات من الثورة عددهم قبلها، مع أنّ هؤلاء كانوا وقودها وهم اليوم محرّكو الاحتجاجات.

رابعاً، كلّ الأزمات الاجتماعية تؤدّي بالضرورة إلى إضعاف الدولة، ويترتّب على ذلك تضخّم الفساد ومراكز القوى (اللوبيات). فالفساد لا ينتهي بسقوط الديكتاتوريات، بل يستفحل بعدها ويصبح أكثر تعقيداً، لأنه ينتشر في كلّ مكان وتكثر الأطراف المستفيدة منه وتتنوّع. وقد كشفت الاحتجاجات الأخيرة مثلاً، مدى انتشار جماعات التخريب والسرقة ومهارتها في استغلال الأحداث لمصلحتها، لكن ما خفي من تأثير مافيات المال والأعمال والعقود المغشوشة أدهى وأمرّ. ومن هنا، فإنّ عودة الدولة بهيبتها وسلطتها لا يمكن أن تتحقّق إلاّ إذا كانت إرادتها في محاربة الفساد إرادة لا تنكَر ولا تعتريها الشبهات، ويكون القائمون على هذه الحرب الأكثر تنزيهاً عن الريبة.

استفحل الفساد في تونس استفحالاً هائلاً بعد الثورة، ولن تنجح الإصلاحات إلاّ بالحدّ منه، كما لن تنجح الحرب ضدّ الإرهاب بغير هذا الشرط، وقد تأكّد ذلك من خلال تجربة السنوات الأخيرة ومن خلال تجارب بلدان أخرى معروفة.

خامساً، لم يعد من الملائم الحديث عن ثورات عربية بالمطلق، ومن باب أولى أن يبطل الحديث عن ربيع عربي وسط أشلاء مئات الآلاف من الموتى والمشردين. فكلّ حالة من حالات الثورات العربية (تونس، ليبيا، مصر، سورية، اليمن) اتخذت مسارها الخاص وينبغي أن تحلَّل وتتابع في سياقها الذاتي. والتجربة التونسية مفتوحة للتفاعل، لكنها غير قابلة للتصدير. والإصرار على توظيفها خارج سياقها وإسقاط إشكالات عليها في غير إطارها، كما قرأنا في بعض الندوات «الثورجية» المقامة أخيراً، يهدّد بوأد أمل النجاح الأخير في مسار الثورات العربية.

ولنقلها بكلّ صراحة: على الإسلاميين في المجتمعات الأخرى الذي يريدون الاندماج في العمل السياسي أن يعالجوا ذلك مع مجتمعاتهم، لا أن يوظّفوا التجربة التونسية آلية دعاية لأطروحتهم، لأن الوضع في تونس، وضع الدين والإسلاميين والمجتمع، غير الوضع في المجتمعات الأخرى ولا يصحّ القياس مع وجود الفارق. كما أن تونس لن تعود إلى مربّع الديكتاتورية والحلول الأمنية ولا فائدة لها في ذلك ولا تقام الأصنام مجدداً إذا ما هوت.

ختاماً، على الدولة التونسية أن تعلن حرباً رباعية الدفع: ضدّ الإرهاب وضدّ الفساد وضدّ البؤس وضدّ الفوضى. وعلى الحكومة والأحزاب أن تبدأ بنفسها وتدرأ عنها كلّ الشبهات. لقد فشلت الحكومة في حجب المشاكل الاجتماعية بالحرب ضدّ الإرهاب، إذ كانت حصيلة الإرهاب في السنة الماضية الحصيلة الأكثر دموية، ثم عادت المشاكل الاجتماعية لتطفو بقوّة وتكشف ارتباك الحكومة وقلة حيلتها. وإذا ما استعيدت المنهجية نفسها، ستعاد النتيجة نفسها… ولكن بعنف أكبر.

  • الدكتور محمد الحداد أكاديمي وأستاذ الديانات المقارنة بالجامعة التونسية

نشر  المقال بجريدة الحياة اللندنية الأحد 31 جانفي 2016.

 

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.