الرئيسية » الخطاب المؤامراتي لدى الرئيس قيس سعيد أو الشريط اللاصق الذي لم يعُد يعمل

الخطاب المؤامراتي لدى الرئيس قيس سعيد أو الشريط اللاصق الذي لم يعُد يعمل

بان بالكاشف أنّ خطاب قيس سعيد هو وليد الخطابات الفاشية التي تستلهم وجودها الأثيري من معجم التخوين و حياكة المؤامرات التي تُبقي دائما كساء البراءة و النزاهة لتُلقي بالمسؤولية على أشباح و كائنات طيفية لا تعرف من الألوان إلاّ اللون الشفّاف الذي يُجهر العين الثاقبة وغير الثاقبة على حدّ السواء. إنّه ذلك الشريط اللاصق الذي تجاوز صلوحيته لكن متعة الاستعمال وحدها لا تكفي.  فلماذا الالتجاء إلى الخطاب المؤامراتي؟

بقلم ميلاد خالدي *

 

يجيب عن هذا التساؤل المفكّر السوري محمد شحرور في قوله: “إنّ العقل الجمعي تبنّى نظرية المؤامرة كي يُعفي نفسه من مهمّة التغيير”. إنّه ذات التمشّي الذي يتّخذه الرئيس قيس سعيد كي يريح نفسه من عناء التغيير وكي لا يجلب لنفسه لائمة الذين صوّتوا له. الخطاب المؤامراتي خطاب تميّزت به الأنظمة الديكتاتورية بداية من النازية وانتهاء بالأنظمة العربية الحاكمة قبل الربيع العربي وما بعده.

قيس سعيد يحارب طواحين الهواء و النيازك الوامضة

الدعاية الإعلامية التي رافقت صعود أدولف هتلر وتأسيسها على مبدأ أنّ كيان ألمانيا مهدّد وأعداءه أكثر من أصدقائه، هذا من شأنه أن يثير حفيظة الشعب ويصطفّ مع حاكمه بصورة واعية أو غير واعية وفي أغلب الظنّ تكون غير واعية لأنّ الشعب يراه حاميا له وراعيا لمصالحه وأمنه.

إلى جانب الديكتاتوريات التي تستعين بهذا الخطاب الماورائي المهزوز نلقى خطاب الإسلاميين الذي لا يبتعد كثيرا عن الفاشية إذا لم تكن هي الفاشية الإسلامية بعينها، الإسلام في خطر والمسلمون مهدّدون ووجب نصرة الإسلام والمسلمين.

وحسب خطابات الرئيس قيس سعيد وسلوكياته، فإنّه يستلهم ويستند إلى المرجعية الإسلامية في أداء للصلاة أثناء زيارته لأحد المناطق الداخلية، السيل الجارف من الدعاء الذي انخرط فيه في أحد خطاباته وكأنّ الجائحة تزول بكلمات التماس موجّهة للعناية الإلهية أو كأنّ أعداد ضحايا الكورونا ستتقلص بمجرّد أنّنا رفعنا أيدينا للسماء.

هذه الاستكانة الضحلة والعجز الصارخ و السلبيّة المزعجة التي يلوذ بها قيس سعيد بقدر ما جعلته يحارب طواحين الهواء و النيازك الوامضة، فهو كذلك يذهب بشعب بأكمله إلى التهلكة. ناهيك عن سياسته الاتّصالية المُعطّلة والجافّة التي تزيد الأمر إلاّ تعقيدا وتوتّرا وإجحافا في حقّ هذا الشعب المغلوب على أمره. فليس هناك داع مهما كان أن نخاف ونتوجّس من مواجهة وسائل الإعلام طالما نحن في ظلّ نظام ديمقراطي مفتوح… ففي الأنظمة الشمولية فقط يكون الخوف من الصحافة ووسائل الإعلام لذلك يلتجؤون إلى تدجينها حتى يقولون ما يريدون ومتى يريدون… وفي حالة أحجموا عن ذلك يتوخّون مسافة منها، وهذا ما يحصل.

 نظرية المؤامرة… ذلك الشريط اللاصق الذي لم يعُد يعمل…

إذا تتبّعنا معنى كلمة مؤامرة التي تُترجم بالإنجليزية بconspiracy  نجد أنّها تعود إلى اللغة اللاتينية con تعني “مع” و spirar  تعني تنفّس. بمعني آخر الاشتراك في التنفس وهو ما يقودنا إلى أنّ هناك من يتنفس معنا ويشترك معنا في نفس الجهاز التنفسي أو يقاسمنا الجوّ والأوكسجين الذي يحيط بنا.

هذا التعريف يجرّنا إلى الجانب الوهمي الذي تكتنفه العملية أي أنّ هناك من يتعدّى على حقّنا في الهواء أي الحقّ في العيش دون منغصّات ودون إكراهات. موقف انكساري انهزامي مهمّته القاء المسؤولية على عاتق الأخر المجهول أو المُتخيّل أو العدوّ المستبطن، حتّى لا يتجشّم عناء الإنجاز والابتكار والتجاوز. فالحكم من منطلق نظرية المؤامرة هو كمن يُصرّ على استخدام شريط لاصق لم يعد يعمل ويريد أن يلصقه أينما حلّ وفي الأغلب يلتجأ إليه حتى يُثبّت حزامه المتهاوي أو يستر مساوئ خطابه وقصور أفقه.

يقول الباحث الأمريكي في عالم السياسة مايكل باركون في كتابه “ثقافة المؤامرة: رؤى أبوكاليبسية  في أميركا المعاصرة”: “إنّ تلك النظريات تعتمد على اعتقاد بأنّ الكون محكوم بتصميم ما… هي تطوّر نظريّات المؤامرة هذه لتدمج في تفاصيلها أيّ دليل موجود ضدّهم، ليصبحوا بذلك جملة مغلقة غير قابلة للدحض وعليه تصبح نظريّة المؤامرة مسألة إيمان بدلاً من دليل”.

من هنا حرّي أن نقول أنّ الرئيس  التونسي قيس سعيد من ضمن استراتيجياته هو إخراج الشريط اللاصق لإسكات الآخر المعارض أو حتّى المواطن العادي الذي يطالبُ بتبرير أو تقييم لجزء من عهدته الرئاسية. خطاب سيأُخذ على أساس المصداقية والوثوقية الإيمانية والدوغمائية، خطاب مُغلق لا منفذ له مُسلّم به وهو ما يتنافى مع العقل و بشرية الإنسان التي تدعو إلى التساؤل الاستدلال والنقد والشكّ ووضع كلّ ما يقال على محكّ الفاهمة الحسّية التجريبية على خُطى دافيد هيوم وليس من باب سفسطة اليوناني غورجياس.

لا تتكلّم… لأنّ الكلام موكول إليّ…

حسب الأنظمة الديمقراطية المتعارف عليها في العالم فإنّ الوعود الانتخابية للرئيس يقع تحقيقها خلال العام الأوّل أو الثاني من عهدته الرئاسية، أمّا في تونس فالأمر مختلف: ثلاثة أشهر ويدخل الرئيس قيس سعيد عامه الثاني لكنّه لم يحقق شيئا وإذا استمرّ هكذا، فلن نرى شيئا سوى الأراجيف والسفاسف و الكتل الكلامية التي تُدين هذا وتُكيل التُهم  لذاك دون الكشف عن المتسبب أو الفاعل الحقيقي، وهذا لا يُخفي ضلوع أحزاب الأغلبية في خراب هذا البلد منذ عشر سنوات وانخراطه المُمنهج في تدمير مقدّرات هذا الشعب.

عندما يذهب خطاب الرئيس المؤامراتي إلى محاكمة مدوّنين محاكمة عسكرية بمجرّد أنّهم أعربوا عن رأي أو رسموا رسما كاريكاتوريا أو كتبوا نقدا ما على صفحة من صفحات شبكات التواصل الاجتماعي. ممارسات استبدادية تُؤمن بالرأي الواحد والمتفرّد، حيث بدا أنّه يخاف من الكلمة أو من رسم أو من كتاب في ظلّ نظام ديمقراطي ناشئ وفي غمار الجمهورية الثانية التي هو راعي دستورها. سياسة غايتها إخضاع فئة هامّة من الشباب الحرّ الذي نشأ منذ عقد من الزمن على مبادئ حريّة الرأي والتعبير “بما لها وما عليها طبعا”، وكيف لنا أن نُباهي بشباب صوّت لنا وجعلنا نعتلى كرسي الرئاسة وفي ذات الآن نقوم بتفعيل محاكم التفتيش لتعقّب المبدعين و الأقلام والآراء المخالفة والمختلفة. ليس من الضروري أن نصطفّ مع جهة ما أو حزب ما كي يتسنّى لنا نقد سياسة رجل في الدولة وإلاّ نكون من عداد الخونة والمأجورين و غير المؤتمنين و نأتمر بأوامر أطراف ما، بمعنى ليس هناك من ينقد وهو محايد ولا ينتسب إلى أيّ جهة… هذا الخطاب الرجعي وهذه العقلية الغاشمة لا تقول الكثير وإنّما تفعل الجرم الكبير.

على رأي الكاتب السّوري الساخر محمد الماغوط “أنت تتلاعب بمصيري” وهو يخاطب كلّ سياسي مراوغ يقول ولا يفعل، يخاطب ولا يعلن، يُسوّف ولا يُنجز، يبيع الأوهام ولا يشتريها… هي دعوة حازمة لكلّ من يتولّى منصبا في هذه الدولة المتهالكة أن يدع السفاسف جانبا وأن يُسخّر طاقته الكلامية في العمل والانجاز لأنّ الشعوب تكافئ حكوماتها ورؤساءها بما قدّموه من إنجازات وإضافات  وإصلاحات و مبادرات جادة وجديّة فقط لا غير. إذا كان هناك متآمر حقيقي وآثم فهو الذي لا يُحرّك ساكنا، هو الذي يرى العوج ولا يهمّ إلى تسويته أو إصلاحه، بل العكس من كلّ ذلك يهرع إلى إخراج ذلك الشريط اللاصق القديم المتقادم  تارة ليغطّي عيبا من عيوبه وتارة أخرى ليخنُق به كلّ من يتجرّأ ويقول “لماذا أنت هكذا… لا نريدك هكذا”.

* كاتب و مترجم  من تونس صدر له كتابان. كتاب بالإنجليزية ببلغاريا سنة 2019   بعنوان Lithium Visions وعمل مسرحي بتونس بعنوان “شيفرة جهبزاد” سنة 2020. عمل آخر روائي بالإنجليزية في طريقه إلى النشر، الى جانب تراجم أخرى.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.