الرئيسية » أحمد فرحات حمودي يكتب عن : أفغانستان، جرح قديم لم يندمل

أحمد فرحات حمودي يكتب عن : أفغانستان، جرح قديم لم يندمل

وحدها هي الصدفة التي قادتني لقراءة رواية من أروع الروايات التي قرأتها في حياتي كانت هدية من صديقة عزيزة كانت قد عادت للتو من كندا وكانت رواية للكاتب الأفغاني عمر قيس أكبر مترجمة للفرنسية بعنوان «Kaboul était un vaste jardin» «كانت كابول حديقة كبيرة» وهي رواية تحاكي واقع شاب أفغاني كان عمره تسع سنوات عندما اشتدت الحرب بين الحكومة الأفغانية الشيوعية بقيادة محمد نجيب الله والمقاتلين الإسلاميين والتي أفضت إلى سقوط حكومة نجيب الله وسقوط العاصمة كابل بيد الجماعات المقاتلة في الليلة الفاصلة بين 27 و 28 نيسان (ماي) سنة 1992 فيما بات يعرف بليلة “الله أكبر” وتصور الرواية بدقة متناهية المعاناة التي كابدها المجتمع الأفغاني والتحولات العميقة التي مسته فغيرت عقلية ونفسية الشعب الأفغاني على مدى أكثر من عقد من الزمن.


قبل قراءتي لهذه الرواية البديعة كانت لدي فكرة سطحية وعامة على أفغانستان وهي المتداولة بين عموم مواطني الدول العربية والإسلامية وهي أن ثورة قامت على النظام الشيوعي في أفغانستان قادها “مجاهدون” تمكنوا من النصر فيها ولكن سرعان ما اختصموا حول الحكم فاندلعت حرب أهلية لم تنتهي إلا بقدوم طالبان وسيطرتهم على البلاد بين سنتي 1996 و 2001 تاريخ سقوطهم ودخول الغازي الأمريكي مسنودا من الناتو غداة أحداث 11 سبتمبر 2001 ولا شك أن هذه القراءة تغذت كثيرا من البروبغندا الغربية والإسلامية من خلال تسمية المقاتلين الإسلاميين بفرسان الحرية وتصوير المقاتل الشيعي شاه مسعود على أنه جيفارا أسيا الوسطى (هكذا قدمته وسائل إعلام فرنسية خلال إحدى زياراته لباريس) علاوة على سلسلة أفلام الممثل الهوليودي سيلفستر ستالوني “رامبو” وكانت قنوات أغلب التلفيزيونات الرسمية العربية تسمي المقاتلين الإسلاميين في أفغانستان من أصول عربية بالمجاهدين العرب بل وصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى تحفيز الشباب العربي للذهاب إلى أفغانستان لنصرة إخوانهم المجاهدين هناك واستشرت الإشاعة والأسطورة والخرافة.
دفعتني رواية عمر أكبر إلى الغوص في شعاب أفغانستان وجبالها وتاريخها وأهلها الطيبين -يحدث أن نحب بلدا بسبب رواية أو لوحة فنية أو قصيدة شعر أو أغنية- لأكتشف وجها آخر لبلد أكاد أجهل عنه كل شيء.

أفغانستان في سنوات الستينات

نصّب محمد ظاهر شاه ملكا على أفغانستان في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1933 وهو في سن التاسعة عشر بعد اغتيال أبيه الملك محمد نادر شاه. كانت أفغانستان حينها ملكية دستورية وكان ظاهر شاه رجلا مستنيرا شهدت فترة حكمه ازدهارا اقتصاديا وتقدما اجتماعيا وثقافيا بارزا خاصة خلال عشريتي الخمسينات والستينات وفي 17 جويلية (تموز) من سنة 1973 انقلب عليه ابن عمه محمد داوود خان الذي أنهى النظام الملكي وأعلن نفسه رئيسا لجمهورية أفغانستان وكان مدعوما بالحزب الديمقراطي الشعبي (شيوعي). واصل محمد داوود خان عملية تطوير المجتمع من خلال مزيد تحرير المرأة وتمكينها وتوجه نحو علمنة الدولة مما أثار حفيظة الشق المحافظ من المجتمع الذي لم يتخلص بعد من النزعات القبلية لا سيما في المناطق الريفية تململ استغلته الجماعة الإسلامية الناشئة حينها والمتأثرة بالصعود المطرد للفكر ألإخواني في المنطقة العربية والإسلامية والمدعومة من النظام السعودي حينها ركزت الجماعة الإسلامية خطابها على معاداة الدولة للدين وإلحاد قادتها فحاول داوود خان استمالتهم وفتح قنوات اتصال معهم ومع النظام السعودي وبدأ بقمع الحزب الديمقراطي الشعبي الذي سانده في الانقلاب مواجهة سرعان ما تحولت إلى اقتتال عندما شكل هذا الحزب جيشا وقاد انقلابا على داوود خان فيما بات يعرف بثورة “ثور” (ثور هو الشهر الثاني في التقويم الفارسي وهو الشهر الذي اندلعت فيه الثورة) كان ذلك نهاية شهر افريل 1978 ما أدى إلى حالة من الاضطراب وإلى دخول القوات السوفيتية لأفغانستان سنة 1979 . تزامن دخول الجيش السفياتي مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران ما حفز الجماعات الإسلامية المقاتلة المدعومة من الولايات المتحدة بالسلاح ومن السعودية بالمال ومن الباكستان والدول العربية بالمقاتلين (المجاهدين العرب كان بينهم شاب ينحدر من عائلة سعودية ثرية اسمه أسامة بن لادن ) عاشت أغلب المناطق الأفغانية قتالا ضاريا بين الجيش الأفغاني المدعوم روسيا والمقاتلين/المجاهدين المدعومين أمريكيا. كانت آخر فصول الحرب الباردة. ولكن أغلب المواجهات لم تصل المدن ولا سيما كابل أين واصل الناس حياتهم العادية وحافظ المجتمع الأفغاني على نمط عيشه النازع للبهجة والفن والحياة استمر الأمر على ما عليه خلال فترات حكم نور محمد تركي وحفيظ الله محمد وبابراك كارمل ومحمد نجيب الله المدعومين من السوفيت. ورغم سقوط الاتحاد السوفيتي وانسحاب الجيش الروسي سنة 1989 فإن نجيب الله واصل حكمه وسيطرته على أهم مدن البلاد وخاصة العاصمة كابل حتى جاءت ليلة “الله أكبر” عندما انقطع التيار الكهربائي على كابل ودخل المقاتلون/المجاهدون يرددون شعار الله أكبر فردد معهم أغلب سكان كابل عبارة “الله أكبر” من بيوتهم متوسمين فيهم خيرا لإنهاء الاقتتال ولكن سرعان ما نشب اقتتال اشد ضراوة بين الفصائل المتقاتلة لا سيما بين برهان الدين رباني وقلب الدين حكمتيار وقيادات أخرى وتحولت الحديقة الواسعة إلى مقبرة كبيرة وملاذا للقطط السائبة تغذى النزاع وتحول إلى تصفيات عرقية. ثأرت الأقليات الهزارة والطاجيك من الأغلبية البشتون وهرب الملايين من البلاد ودخلت أفغانستان في أتون حرب لا تنتهي استمرت على مدى أربع سنوات خلالها كانت مجموعة من طلبة القرآن (طالبان باللغة الدارية) تأخذ دروسها الأخيرة من المخابرات الباكستانية وتعد عتاد الحرب بتمويل سعودي لتنطلق من كندهار ثاني كبرى المدن وتستولي على الحكم دون مقاومة تذكر من الفصائل التي أنهكها القتال كان ذلك في 27 سبتمبر (أيلول 1996) مع قدوم طالبان ذوي اللباس الغريب واللحى الكثيفة والمتسخة منع كل شيء أحرقت الصور وأتلفت آلات التسجيل وهشمت التلفيزيونات ورجمت النساء وقطعت أيادي ورؤوس الرجال وتحول المجتمع المسالم والطيب والهادئ إلى وحوش آدمية في أغلبه لا تحركه سوى غريزة البقاء وتحولت بلاد جلال الدين الرومي وجمال الدين الأفغاني إلى أكثر بلدان العالم تخلفا ووحشية. لا غرابة إذن أن يستبشر أغلب الأفغان بنهاية حقبة طالبان نهاية 2001 رغم رفضهم للمحتل الأميركي وحاولوا إعادة بناء بلدهم وعاد مئات الآلاف من المهجرين إلى مدنهم واستأنفت المدارس والجامعات دروسها وعادت الحياة اليومية إلى سالف نشاطها ولكن الجرح ضل غائرا في نفوس الأفغان رغم لملمة الجراح. سنة 2014 فاز الدكتور والباحث أشرف غني بالرئاسة وطرح برنامجا للنهوض الاقتصادي وللإقلاع الحضاري حتى تستعيد أفغانستان مجدها الضائع. أفغانستان، قال مؤرخ، هي مهد الممالك والإمبراطوريات. بالتوازي مع ذلك كانت هنالك مساع لإعادة رسكلة طالبان بوجوه جديدة مكشوفة (لا صورة لأمير طالبان في نسختها الأولى الملا عمر) وبخطاب أكثر ليونة. هناك في قطر كانت المساعي لإدخال طالبان للحكم ربما لتنفيذ أجندة ما. رفض أشرف غني الرئيس المنتخب في أفغانستان شروطا مجحفة هو الذي بدأ يدير عنقه إلى الجارة الشرقية إذ من سهول باميان أين يراقب بوذا العالم بوذا الذي حاولت طالبان تدمير تماثيله يمر طريق الحرير تخلى الكل عن أفغانستان وقدموها لقمة سائغة لطالبان مرة أخرى. أليست مسخرة عندما يعيد التاريخ نفسه. يحاول الكل الهروب في صور قد تصدم العالم ولكنها حتما لن تصدم من لديه فكرة عن حقبة حكم طالبان لأفغانستان بين 1996 و 2001
الآن طالبان لقطع طريق الحرير
الآن طالبان شرطيا سنيا على الجارة الشيعية إيران
الآن طالبان لإعادة تجميع المقاتلين الفارين من سوريا وسيناء والشعانبي وليبيا تمهيدا لإعادة نشرهم في وقت ما في مكان ما
وفي كل هذا شعب أفغانستان ككل مرة يدفع الثمن وكابل لن تعود الحديقة الكبيرة وبدل الطائرات الورقية التي كانت تزين سماء كابل ستحلق قاذفات اللهب.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.