في معنى المنفى

طلبت مني مدينة باريس منذ سنوات مضت في جلستها العامة ترجمة بعض مقتطفات للشاعر والكاتب الفرنسي فيكتورهوغو كتبها في منفاه ربما بين سنة 1886 و 1888 يعرّف فيها بالمنفى وكان فيكتورهوغو قد تحمّس لمشروع العفوعن المُنتمين إلى ثورة كومونة باريس (1874). وبعد رفض المشروع تبعتْ عودة الشاعر إلى فرنسا مباشرةً موجاتٌ من النّفي والإِبْعاد ولم يتمكّن البعضُ من المنفيين من العودة، رغم العديد من تدخّلات الشاعر الفرنسي الكبير. (الصورة: هوغو في منفاه بجزيرة غيرنيسي).

نص فيكتورهوغو تعريب طاهر البكري

[2]
المنفى، هو عَراءُ القانون.لا شيْءَ أفظع مِنْ ذلك. لِمنْ ؟ لِمنْ يُعاني مِنَ المنفى؟ لا. لِمنْ يُلْحِقُهُ.
إنّ العذابَ يَنْقلِبُ على الجلاّد و يَعُضُّهُ.
مِهْما يفعل الأقوياءُ المُؤقّتون فالأعماقُ الدّائمة لا تلينُ لهُمْ. ليْسَ لهُمْ إلاّ سَطْحُ اليقين وما جاءَ تحْتَه يمْتلِكُهُ المُفكِّرون. تَنْفونَ إنسانا. لِيَكُنْ كذلك. ولكِنْ ثمّ ماذا ؟ يُمْكِنُكُمْ أنْ تقْتلِعوا شجرةً مِنْ جُذورها ولكِنَّكُمْ لا تستطيعون أنْ تقتلعوا النّهارَ مِنَ السّماء. غدا مَطْلع الفجْرِ.
هذا إنسانٌ مُنْهارٌ إلى حَدِّ أنّهُ لمْ يبْقَ لهُ إلاّ شرفُهُ ، عارٍ حتّى أنّهُ لمْ يَبْقَ لهُ إلاّ وَعْيُهُ ، هُوَ معزولٌ حتّى أنّهُ لمْ يَعُدْ بِقرْبه إلاّ الإنْصافُ ، ومنْبوذٌ إلى حدّ أن ليْسَ معهُ إلاّ الحقيقة وأُلْقِيَ في الظُّلُمات حتّى لمْ تبْقَ لهُ إلاّ الشّمس.هذا هو ما يَعْني الإنسانُ المُبَعَدُ.
[3]
المنفى ليس أمْرا مادّيا بلْ أمْرا أخلاقيا.
[4]
لِتنْتَظِرْ كلَّ شيْءٍ أيُّها المُبْعَدُ. كلُّ شيْء مسْموحٌ به ضِدّكَ. أنتَ خارجٌ عن القانون ، خارجٌ عن الإنْصاف ، خارجٌ عن العقل ، خارجٌ عن الإحترام ، خارجٌ عن المعقول. سيُقال إِنّكَ سَمَحْتَ بِنشْرِ محادثاتِكَ وسَيُجْتَهَدُ في أنْ تكونَ حمقاءَ. ستُنْسَبُ لكَ أقْوالٌ لمْ تَقُلْها ورسائلُ لمْ تكتُبْها و أعمالٌ لمْ تَقُمْ بها. وسيَصِلُ الحدُّ إلى الدّهشة : كيْف لا تجِدُ مِنَ الطّبيعيِّ أنْ تُشَوَّهَ سُمْعتُكَ.
ألَسْتَ هنا مِنْ أجْلِ ذلك؟ أيّها الإنسانُ السّاذج، أنت عُرْضَةٌ. مَنْ يشْتِمك لَهُ رِبْحٌ، لا بأْسَ، تلك إمْكانيةٌ يعيش مِنها النّاس.
[7]
تلك هي الجوانبُ الصّغيرةُ لِلْمنفى و هذه هي الكبيرة :

طَيْفٌ و تفكيرٌ وألَمٌ.
تكونُ وحيدا و تشْعُرُ بِأنَّكَ مع الجميع ، تَكرَهُ تفوُّقَ الشرِّ و تأْسَفُ لِسعادة الشِرّير، تُثَبِّتُ نفسَكَ كمُواطنٍ و تَتَطَهَّرُ كفيْلسوف ، تكونُ فقيرا وتُصْلِحُ انهيارَك بِعمَلك ، تتأمّلُ في الخيْروتُعِدُّ لما هو أحسن ، ليْس لك مِنْ غضبٍ إلاّ في الشّأْن العامِّ ، تجْهَلُ الكراهيّةَ الشّخْصيّةَ، تسْتنشِقُ الهواءَ الشّاسِعَ الذي يعيشُ في الوِحْدة ، تنْغَمِسُ في الحُلْم الكبيرالمُطْلَق، تنظُرُ إلى ما هُوَ في
الأعلى دونَ أنْ يَخْفى عنْكَ ما هو في الأسْفل ، لا تتأمّلُ في المِثاليّة طويلا حتّى تنسى الطّاغيةَ ، تلاحظُ في نفْسِك المزْجَ الرّائعَ بيْنَ الإسْتِياءِ الذي ينْمو والتّهْدِئةِ التى تَقْوى ، تكونُ لك روحانِ ، روحُكَ والوطن.
[12]
هذا المنفِيُّ لا يشكو مِنْ شيْءٍ. لقدْ اشتغل .هو أَعَاد بِناء حياتِهِ ، لِنفْسِه ولِأهْلِه. كلُّ شيء على ما يرام.
هلْ هناك مَزيّةٌ في أنْ تكونَ منفيّا ؟ لا. هذا، كَأَنْ تسْألَ :هلْ مِنْ فَضْلٍ أنْ تكونَ إنسانا نزيها ؟
الإنسانُ المُبعَدُ هو إنسانٌ نزيهٌ مُتمَسّكٌ بِالنّزاهة. ذلك ما في الأمر. هو يذهبُ إلى آخرِالشّرفِ والوَعْيِ. هنا يجدُ الهوة. لِيَكُنْ ذلك. يسْقطُ فيها. تماما. هلْ يموتُ فيها ؟ لا. هوَ يحيا فيها.
[14]
و لذلك فالذي يكتبُ هذا ، كان لِمُدّة تسعةَ عشرَعاما فرِحا و حزينا.
[15]
مع ذلك، سوف لنْ يُنْهيَ هذه الصّفحاتِ، دونَ أنْ يقولَ إنّهُ خلال تلكَ الليلة الطويلة المصنوعة من المنفى لمْ تَغِبْ عنْهُ باريس وَلَوْ لحظة واحدة.
هو يُلاحظُ ذلك، وهو الذي كان يَسْكُنُ الظّلْمَةَ طويلا، لهُ الحقُّ في أنْ يُلاحظَ ذلك. حتّى عندما يَعُمُّ الظّلامُ أوروبا، حتّى عندما تتجاهَلُ فرنسا، فباريس لا تختفي لأنّ باريس هي حدّ المسْتَقبَل.
هي الحدُّ المرْئِيُّ لِلْمجهول. هي كلُّ كمّية الغدِ التي يُمْكنُ رُؤيتها اليوم. تلك هي باريس.
مَنْ يبْحث بِعيْنيْه عنِ التقدّم ، يلمح باريس.هناك مُدنٌ سوداء و باريس مدينة النّور.
[16]
تبقى باريس غير منسيّةَ وغير مَمْحُوّةَ وغير مغْمورةَ، حتّى بِالنّسْبة للإنسان المُحَطَّم في الظّلِ، الإنسان الذي يقْضي ليالِيهِ متأمّلا في الهدوء الخالد وفي روحه الذهولُ العميقُ لِلنّجوم.

الأعمال الكاملة، دار ماسّان للنشر، الجزء 15، ص 601-622

شارك رأيك

Your email address will not be published.