فلسطين وحدها في مواجهة الصمت الدولي والتقاعس العربي

في هذه اللحظات العصيبة التي يلجأ فيها كاتب هذه السطور إلى القلم للتعبير عن سخطه وبالغ قلقه إزاء الفظائع التي تتعرّض لها يومياً فلسطين الجريحة، يزداد بلا هوادة وبكل عشوائية القصف ويزداد تساقط القذائف والقنابل الفتاكة على السكان الأبرياء العّزّل من كهول وأطفال ونساء، بما يقضي على الأخضر واليابس ولا ينجو منها حتى المستشفيات والمدارس.


بقلم فتحي بن حميدان

في هذه الخلفية المخزية هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح: ماذا يفعل المجتمع الدولي يا تُرى في هذه الأثناء؟ إنه لا يفعل شيئاً سوى الاختباء في صمته المعتاد ولا يخرج منه إلا للخُطب الجوفاء والحركات التمويهية الخاوية. ويستمر العالم في التزام صمته المدوي الذي هو في نفس الوقت صمت معبّر جداً! (لا يصغي القادة الغربيون إلا لصوت واحد فقط، صوت نتانياهو واليمين المتطرف في إسرائيل، الذي يُؤمن بإيديولوجية الإبادة الجماعية لا غير).

في مواجهة هذا الوضع الذي يُجرد فيه شعب ظلماً من أرضه ووطنه، من المشروع تماماً أن نتساءل عمّا حل بالقانون الدولي الإنساني، أو حتى القانون الدولي بشكل عام. هل وُجد هذا القانون حقاً في يوم ما؟ وماذا عن جميع المنظمات الدولية والحكومية الدولية والإقليمية وغيرها من المنظمات التي من المفترض أن تعمل من أجل السلام والتسامح والتعايش السلمي والتآخي والتعاون في العالم؟ قد يقول البعض إن هذه المفاهيم مجرد كلام وتمنٍّ للنفس ومُثل عليا مصمّمة لإراحة الضمير.

في أعقاب الأحداث الدموية الأخيرة والفظائع المُرتكبة ضد الشعب الفلسطيني رداً على الأعمال التي يصفها البعض بأنها “إرهاب”، وأعمال المقاومة التي يرى البعض الآخر أنها وليدة اليأس، من الضروري أن ننظر عن كثب في هذا الوضع المستمر منذ 75 عاماً، وأن نتناوله برمته.

تحقيقاً لهذه الغاية يبدأ هذا المقال باستعراض موجز سريع لأوضح وأهم تعاريف الأفعال والأوصاف والمفاهيم والمصطلحات المنطبقة على القضية الفلسطينية كما وردت في الصكوك الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان بشكل عام.

وسيتبع ذلك استعراض مجمل لتنفيذ مبادئ القانون والقرارات المعتمدة على الصعيد الدولي وتنفيذها العملي على أرض الواقع … من عدمه.

وأخيراً، سيتضمن المقال بعض الملاحظات والتعليقات حول تفاعل، أو عدم تفاعل، المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام، وخاصة الغربية، دون إغفال جامعة الدول العربية، المؤسسة الإقليمية التي من المفترض أن تكون الأكثر اهتماماً بهذه المأساة الإنسانية.

الصكوك الدولية الأساسية لحقوق الإنسان

أولاً، نستعرض بإيجاز بعض الأحكام الواردة في الصكوك الدولية الرئيسية المتمثلة في ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، دون نسيان صكوك أخرى لا تقل عنها أهمية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري، واتفاقية حقوق الطفل.

وبينما يتعين علينا أن نوضّح بادئ ذي بدء أن مجموعة صكوك القانون الدولي الإنساني واردة أساساً في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، دعونا نلقي نظرة على ما يقوله ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بخصوص البعض من مبادئ القانون الدولي الإنساني. تنص الفقرة 2 من المادة 1 على أن مقاصد الأمم المتحدة هي “تنمية العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وحقها في تقرير المصير، واتخاذ التدابير الملائمة الأخرى لتعزيز السلام العالمي”.

أما المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فتنص على أن “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.

وفي ديباجة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية – وهو نظام أساسي لم تنضم إليه الولايات المتحدة الأمريكية – تُعلن الدول الأطراف أنها تضع في اعتبارها أن “ملايين الأطفال والنساء والرجال قد وقعوا خلال القرن الحالي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة”، وتسلّم بأن “هذه الجرائم الخطيرة تهدد السلم والأمن والرفاه في العالم”، وتؤكد أن “أخطر الجرائم التي تثير المجتمع الدولي بأسره لا يمكن أن تمر دون عقاب وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تُتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي”، وتعلن كذلك “تصميمها على المساهمة بهذه الطريقة في منع ارتكاب المزيد من الجرائم” كما تعيد تأكيد “مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة أن جميع الدول يجب أن تمتنع عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها”. وفي منطوق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تعدّد الدول الأطراف، في المادة 6، “الأفعال التي تُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً، وتشكل جريمة إبادة جماعية”. ثم تعرّف المادة 7 من النظام الأساسي الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بالنص على أنه “لأغراض النظام الأساسي … يشكل أي فعل من الأفعال التالية جريمة ضد الإنسانية متى ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم: (أ) القتل العمد؛ (ب) الإبادة؛ (ج) الاسترقاق؛ (د) إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان؛ (ه) السجن أو الحرمان على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي؛ (ي) جريمة الفصل العنصري؛ (ك) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى آخر يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدينة”. من ناحية أخرى، تعرّف جريمة الفصل العنصري بأنها “أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال… التي تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى وتُرتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام”.

وهناك بند آخر في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وليس أقلها أهمية، ألا وهو المادة 29، التي تنص على أن “الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة لا تسقط بالتقادم”.
في ضوء ما تقدم، لا يمكن القول بأن هناك مغالاة بأي حال من الأحوال في إعلان أن جميع مصطلحات وتعاريف وأحكام ومبادئ القانون الإنساني المذكورة أعلاه تنطبق حرفياً في جميع جزئياتها على الوضع في فلسطين المستمر منذ سنوات طويلة.

طوال ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال والاستعمار والقمع بجميع أنواعه، بذلت إسرائيل، سلطة الاحتلال، بلا هوادة وبلا ضمير أو رادع أو وازع وبدون عقاب وبكل غطرسة، كل ما في وسعها لتحقيق حلمها التوسعي الجنوني، المحكوم عليه بالفشل آجلاً أم عاجلاً لأنه ظالم تماماً ويتعارض أساساً مع جميع قواعد القانون، ويُضر بشكل أساسي بالسلام والأمن في العالم.

العبارات الرئيسية المتداوَلة فيما يتصل بالقضية الفلسطينية ونفاق الغرب

هذه العبارات، بدون أي ترتيب معين، هي: الصهيونية، السامية، الاستعمار، الاحتلال، القمع، الاضطهاد، المقاومة، التحرير، الفصل العنصري، حقوق الإنسان، قرارات الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية ووكالاتها المتخصصة، وسائل التواصل الاجتماعي، المجتمع المدني، المنظمات غير الحكومية، الرأي العام العالمي، إلخ.

كثيراً ما أُسيء استخدام هذه العبارات والمفاهيم ولطالما أُفرغت من جوهرها، وشوّهت، وحُرّفت، وجرى التلاعب بها، وحوّلت عن غرضها الأساسي من أجل خدمة مصالح معينة، في استخفاف تام بالقانون والقيم. ومن هنا جاءت دناءة الغرب وجاء نفاقه الصارخ وسوء نيته الواضحة، وتواطؤه وسياساته الوقحة والمتغطرسة القائمة على الكيل بمكيالين كلما تعلق الأمر بالتعامل مع قضايا العالم وصراعاته. فرؤيته الأحادية الجانب والأنانية المتميزة بهوس حب الذات وقِصر النظر وفقدان الذاكرة، وهي كلها إرث واضح لتراثه الاستعماري والإمبريالي، لا تخدم السلام والقيم العالمية لتآخي الشعوب والأعراق، بل على العكس من ذلك فإنها لا تؤدي إلا إلى تفاقم الكراهية والأحقاد وتزيد من مشاعر الظلم والإحباط، وتغذي أخطر أشكال التطرّف التي غالباً ما تؤدي إلى أوضاع مؤسفة بل وكارثية.

سقطت الأقنعة وانكشفت وجوه البعض على حقيقتها

لإثبات صحة وجهة النظر هذه، التي قد تبدو شخصية وذاتية وفيها عاطفية، يكفي الوقوف على بعض المواقف الحقيقية التي تفضح الكذبة الكبرى وتكشف الوجه الحقيقي للبعض، خاصة في الغرب. وهذه المواقف تنبئ، بشكل مباشر أو غير مباشر، بزوال العديد من القيم الحقيقية والمثل العليا التي طالما تشدق بها الغربيون ومن بينها الديمقراطية، وحرية التعبير والرأي، وحقوق الإنسان.

بدأ كل شيء مع بداية حرب الخليج، عندما تم السماح بتوجيه أقذر الضربات، الإعلامية، والسياسية وغيرها، ضد أي شكل من أشكال “المعارضة” أو الرأي المخالف – الكذب والخداع و الغدر وسوء النية وطمس الحقائق والتضليل الإعلامي.

في هذا الصدد، لا يمكن أن يكون هناك مثال أكثر دلالة من الاتهامات التي لا أساس لها والبيانات الكاذبة التي أدلى بها وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن حيازة العراق المزعومة لأسلحة دمار شامل. أدت هذه الأكاذيب الوقحة إلى حرب الخليج الثانية، والتي أدت، بالإضافة إلى الانهيار الكامل للعراق، إلى زعزعة استقرار المنطقة بشكل دائم وظهور جماعات إرهابية عنيفة متطرفة، مثل داعش والقاعدة.

تمثل الأمر الأكثر إثارة للاشمئزاز والذي كان لا يطاق بالنسبة للشعوب العربية في ذلك الوقت في طريقة تغطية الحرب من قِبل وسائل الإعلام التي كانت، فيما عدا استثناءات قليلة جداً، خاضعة لوسائل الإعلام الرئيسية ومأجورة لدى أقطاب الإعلام الرئيسيين واللوبيات ومجموعات الضغط والمصالح من جميع الأنواع. فقط المتملقون المؤيدون دون تحفظ وأولئك الذين كانوا دائماً على استعداد لأن يكونوا متحمسين بارعين في المزايدة كان لهم صوت يُسمع.

خلال حرب الخليج، كان كل افتراء يشوه سمعة العراق وقادته موضع ترحيب في كل مكان ويمكن التعبير عنه بكل حرية. لكن، في المقابل، سرعان ما دفع مغنٍّ مغاربي شاب ثمن هذه الحرية ذات الوجهين: لقد مُنع بكل بساطة من بث أغنية يمتدح فيها الزعيم العربي الراحل صدام حسين.

اليوم، مع الفظائع المرتكبة في غزة، يحذر البعض في الغرب من أنه من المحظور تجاوز خط أحمر معين، ألا وهو واجب عدم “تمجيد الإرهاب” أو قول أي شيء كان عن إسرائيل. إن عبارات الاتهام بالإرهاب ومعاداة السامية جاهزة على الدوام وسرعان ما توجّه إلى من يجرؤ … الصهيونية تراقب الجميع، مترسخة ومتأصلة الجذور. الويل وكل الويل!!!

لحسن الحظ، من المشجع أن نلاحظ أن أعداداً متزايدة من الأصوات ترتفع يوماً بعد يوم في جميع أنحاء العالم، من أشخاص وشخصيات من مختلف الثقافات والقوميات والاتجاهات السياسية والإيديولوجية والأديان، لإعلاء صوت الحكمة والعدالة والتنديد بالصهيونية والعنصرية والفصل العنصري للمحتل والدفاع عن الضحية. هذا يُحسب لهم ويثلج الصدر في أوقات التوتر والصراع هذه.

معاداة السامية؟ لا بد من توضيح!

السامية هي مفهوم استولت عليه وتملّكته سلطة الاحتلال والحركة الصهيونية العالمية بغدر وسبق إصرار. اليهود ليسوا الساميين الوحيدين وليس لديهم الحق الحصري والمطلق في الاستحواذ على هذه الصفة واحتكارها.

للأمانة، من هم الساميون يا ترى؟

في عددها الصادر في 27 أبريل 2004، نشرت الأسبوعية الفرنسية Jeune Afrique التوضيح التالي: “لا يكاد يمر يوم دون سماع الحديث عن معاداة السامية. تشير معاداة السامية إلى أفعال أو تصريحات موجّهة ضد أفراد أو رموز الجالية اليهودية. وهكذا تُستخدم العبارة بمعنى معاداة اليهود، لكن اليهود بعيدون كل البُعد عن أن يكونوا الساميين الوحيدين. اختُرع هذا المصطلح في عام 1781 للإشارة إلى اللغات التي حدد نسبها في وقت مبكّر من القرون الوسطى العلماء اليهود: العبرية والآرامية والعربية … اليوم، الشعوب التي يمكن تسميتها سامية هي بالأساس الشعب اليهودي والشعب العربي”.

ماذا عن حرية الرأي والتعبير؟

فيما يلي مثال وجيه لحرية التعبير وفقاً للمفهوم الغربي لهذا الحق الأساسي الذي نحتته وشكّلته وفرضته وسائل الإعلام خلال حرب الخليج، الذي سيسجل من الآن فصاعداً بداية عصر جديد من الحريات، العصر الأوروبي – الأمريكي. هذا المثال مثال آخر على التحيز التام والأعمى لوسائل الإعلام الغربية، التي تجانِب عمداً وبشكل ميؤوس منه الموضوعية والضمير، وهو ذو صلة أيضاً بحرب الخليج. هذه هي حالة الراحل حمادي الصيد، سفير تونس الشهير وممثلها لدى اليونسكو والمدير السابق لمكتب جامعة الدول العربية في باريس وواحد من ألمع ما أنجبت تونس من مثقفين ودبلوماسيين محنكين.

كانت تتم دعوة حمادي الصيد في العديد من البرامج والاستديوهات التلفزيونية والإذاعية خلال حرب الخليج وفي النشرات الإخبارية المسائية، لكن لم يدم ذلك طويلاً للأسف! إذ سرعان ما توقفت وسائل الإعلام عن دعوته واكتفت، في أفضل الأحوال، بدعوته إلى نشراتها في ساعات متأخرة من الليل. وفي مواجهة الأداء الاستثنائي المتميز لممثلنا السابق، سواء من حيث الحضور والكاريزما أو من حيث البلاغة وقوة الإقناع، توقفت الوكالات الغربية، نزولاً عند رغبات وإملاءات مختلف مجموعات الضغط، عن دعوته لإلقاء ضوء مختلف على الأحداث المتعلقة بحرب الخليج في العراق وفي العالم. وهكذا، فإن أناقته وبلاغته وإتقانه التام للغات (العربية والفرنسية والإنكليزية)، ومهاراته وصفاته المعترف بها من قِبل الجميع، جنباً إلى جنب مع طريقته الرصينة والحكيمة والهادئة في عرض الحقائق وحججه الدامغة والجيدة التركيز سرعان ما أدت إلى تقلّص ظهوره الإعلامي، مما فسح المجال للرقابة الصارمة والانحياز الواضع والصوت الواحد. أين ذهبت حرية التعبير؟ هل ان المعلومة المحايدة والموضوعية قد ماتت ونبت الربيع على دمنتها؟ استمرت هذه التصرفات منذ ذلك الحين، وآثارها باقية إلى الآن: ميل إلى الرغبة المتعمّدة والمتروية في إسكات أي صوت معارض ومتنافر وتكميم أفواه كل من قد يميل إلى الخروج عن الصف وعدم السير مع التيار وعدم الانحياز إلى المستحب إيديولوجياً من وجهة النظر الغربية. فأي شخص يتمرّد ويُعبر عن رأي مختلف يُتهم على الفور بالإرهاب أو معاداة السامية أو حتى بالنزعة التحريفية.

أما عن الإرهاب فحدّث ولا حرج!

بالنسبة لجميع أولئك الذين يعانون من فقدان الذاكرة أو الذين ذاكرتهم قصيرة، تجدر الإشارة إلى أنه خلال الحرب العالمية الثانية، كان الألمان يسمون “إرهابيين” أولئك الذين كان الفرنسيون يسمونهم “مقاومين”.

من ناحية أخرى، هل يُعقل أن يُنعت مناضلو ومقاتلو سوابو (Swapo) في ناميبيا ومقاتلو حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا (ANC)، الذين استطاعوا، بفضل نضالهم ومقاومتهم، الإطاحة بالفصل العنصري، الذي هو آفة أخرى من آفات العصر الحديث، بالإرهابيين، هم الذين قاتلوا لسنوات طوال وانتهى بهم الأمر إلى الانتصار في كفاحهم من أجل الحرية والكرامة؟

هل كان نيلسون مانديلا، الشخصية التاريخية الفذة، إرهابياً؟، هو الذي قاتل لسنوات وقدّم الكثير من التضحيات لقيادة السكان السود في جنوب أفريقيا إلى النصر ووضع حدً لنظام الفصل العنصري البشع – آفة القرن العشرين المهينة جداً للإنسان والمخزية جداً للبشرية؟

وماذا عن الشعب الجزائري ومليون شهدائه الذين استشهدوا من أجل الاستقلال والحرية والكرامة؟ هل كان شعباً إرهابياً هذا الشعب الذي ناضل وضحّى طوال 132 عاماً فتمكن من التغلب على بطش القوة الاستعمارية التي احتلت أرضه وحوّل حلمها بجزائر فرنسية (“Algérie française”) إلى كابوس؟

إذا كان الشعب الجزائري أيضاً شعباً إرهابياً فعندئذ نعم يصبح اللجوء إلى جميع الوسائل، بما فيها القوة والعنف الحل الأخير ووسيلة مشروعة جوهرياً.

إن قائمة ما يسمى بحركات التحرير والتحرر “الإرهابية”، التي ناضلت ولا تزال من أجل قضايا عادلة، في أفريقيا وأماكن أخرى، طويلة.

من ثم، إذا كان طريق “الإرهاب” هو السبيل الوحيد المتبقي للشعب الفلسطيني لاستعادة أرضه ووطنه، فليكن! ذلك أنه، على ما يبدو، الملاذ الأخير!!! على الرغم من أنه في حالة فلسطين هناك طريقة يراها البعض حلاً سلمياً مسالماً يتلخص في التوجه إلى المستعمِر ومستوطنيه الغاصبين بالقول “Settler go home” (ارحل أيها المستوطن وعُد إلى بلدك الأصلي!)، بما أن غالبية المستوطنين يحملون جنسيتين على الأقل، فإنه من الطبيعي أن يعودوا إلى بلدانهم الأصلية، سيكون ذلك حلاً عادلاً بامتياز. وكلّ هذا بالإضافة إلى كون جلّ ما يعرف باتفاقيات السلام قد باءت بالفشل ولم تعط النتائج المنشودة نظراً لتعنّت سلطة الاحتلال.
بصيص أمل
في ظل هذا الجو العام الذي تكتنفه القتامة والضبابية، بدأ بصيص من الأمل يلوح في الأفق. القادة، الغربيون والعرب على حد سواء، مع بعض الاستثناءات، أصبحوا يسمعون المزيد والمزيد من الأصوات المتعالية المعارضة والغاضبة من شعوبهم التي تدعوهم إلى التعقّل والتحلي بالعدل والإنصاف تجاه الفلسطينيين. الإحباط أصبح أكثر وضوحاً والتنديد ازداد صراحة وجرأة. هؤلاء الناس، شباباً وكهولاً، لم يعودوا يصدّقون حكوماتهم ويثقون بها. إن شعوب العالم، بمساعدة شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، أصبحت تفتح أعينها وتفكر ولا تصدق كل ما يُحكى ويُحاك لها. الصغار والكبار على حد سواء يتضامنون علانية مع القضايا النبيلة والعادلة، وهذا أمر يبعث على الانشراح والتفاؤل. في هذا العالم المتغيّر المعالم، هل سينجح الشباب، بحماسهم العفوي وضمائرهم الحية، في يوم من الأيام في جعل السياسيين والمجتمع الدولي ينثنون وينزعون إلى الاحترام الكامل وغير المشروط لإرادة الشعوب والقرارات التي تتخذها أعلى الهيئات الدولية؟ ولا سيما تلك التي تتخذها الأمم المتحدة؟

الأمم المتحدة وإخفاقات مجلس الأمن المزمنة

فيما يتعلق بقرارات الأمم المتحدة، ربما كان من المستصوب أن نتحدث أولاً وقبل كل شيء عن مجلس الأمن، وبنيته البالية وتركيبته التي عفا عليها الزمن، وطريقة عمله المصابة بالشلل، وأن نوجّه النظر إلى أن قرارين حاسمين اعتمدتهما الأمم المتحدة قبل عدة سنوات لم ينفذا قط وظلا حبراً على ورق، في حين أن تطبيقهما كان من شأنه أن يحسم جزءاً كبيراً من الصراع في الشرق الأوسط. القراران المعنيان هما القرار 242 الذي اتخذه المجلس في جلسته 1382 المعقودة في 22 نوفمبر 1967، والقرار 338 الذي اتخذه في جلسته 1748 في 22 أكتوبر 1973. وحتى اتفاقات سلام هامة تُركت على الرف… وعلى الدنيا السلام!

بالعودة إلى المجلس وتكوينه الحالي، هناك أصوات متزايدة تدعو إلى تنقيحه. والواقع أن البعض يعتقد أن بلدين على وجه الخصوص، فرنسا والمملكة المتحدة، لا مبرر لجلوسهما كعضوين دائمين في المجلس. الأولى، فرنسا، لأنها فقدت كل عظمتها ومصداقيتها وثقة العديد من البلدان بها، في أفريقيا وغيرها. هذه الدول وشعوبها تلومها على عقليتها الاستعمارية وتحيزها وأنانيتها وجانبها الماكر، فضلاً عن غرورها وغطرستها. والثانية، المملكة المتحدة، بسبب غدرها الأسطوري وإمبرياليتها المعروفة. العديد من الصراعات في العالم الحديث يعود مصدره وأصله إلى القنابل الموقوتة التي تركتها وراءها هذه القوة طواعية وعن قصد، حيثما حلّت: الهند، باكستان، فلسطين، الشرق الأوسط، إلخ…

وقد تميزت هذه القوة نفسها بدعمها التاريخي لقضايا لا يمكن الدفاع عنها لكونها قضايا غير عادلة. ولم ينس الكثيرون دعمها التاريخي الشرس والعنيد لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي كان نظاماً عنصرياً وخبيثاً ومهيناً للإنسان.

وفيما يتعلق بتكوين مجلس الأمن وعضويته، يقترح البعض أن يشمل، بدلاً من هذين البلدين، دولاً مثل ألمانيا او اليابان أو البرازيل أو الهند أو إندونيسيا، ولما لا، بلداً عربياً أو أكثر.

الجامعة العربية وعدم كفاءتها المألوفة

في ختام هذا الاستعراض العام، وفي سياق إرادة الشعوب، التي تغنى بها ومجّدها الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي، تجدر الإشارة إلى وجود منظمة إقليمية عربية، هي جامعة الدول العربية، من المفترض أن تُصغي إلى إرادة الشعوب العربية في دعمها ودفاعها عن قضية الفلسطينيين، الذين يُنكّل بهم ويُقمعون منذ فترة طويلة جداً وتريد الدولة الصهيونية إبادتهم بأي ثمن وتسعى جاهدة الى محو وطنهم من خارطة العالم. ولكن ماذا فعلت هذه المنظمة يا ترى منذ نشأتها في 22 مارس 1945؟ الجواب للأسف قصير ومخيب للآمال: لا شيء! إنها لم ولا تفعل شيئاً ولم ولا تصلح لشيء على الإطلاق، إن لم يكن، بالعكس، إثارة الانقسامات والانشقاقات ومفاقمة التوترات بين دول المنطقة. هذه المنظمة غير فعالة وعديمة الكفاءة وميؤوس منها إجمالاً، لأنها لا تستجيب بأي شكل من الأشكال لتطلعات العالم العربي. لم تفعل أبداً أي شيء إيجابي لصالح الشعوب العربية. وخير دليل على ذلك الخمول والتهاون اللذان يجسدهما الصمت المخزي في أزمة غزة. هذه المنظمة وأعضاؤها، بتحالفاتها وعلاقاتها الزائفة وغيرها من أشكال “التطبيع” مع إسرائيل، لم تستطع حتى مجرد وقف سفك دماء سكان غزة، ووضع حد للمجازر المُرتكبة ليلاً ونهاراً بحق المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ، والضربات التي تستهدف المدارس والمستشفيات. الأبرياء يُقتلون بالآلاف، وماذا تفعل الجامعة؟ تُقرر عقد اجتماع “طارئ” لدراسة الوضع. بلغة هذه الجامعة، عقد اجتماع طارئ يعني الاجتماع بعد أسبوع أو عشرة أيام! لحسن الحظ، ولإنصاف البعض وإعطاء كل ذي حق حقه، اتخذت مجموعة صغيرة من البلدان مواقف تُشرّفها، في انسجام تام مع شعوبها.

بعيداً عن الدفاع عن القضية العربية، غالباً ما تعمل الجامعة كأداة كبح وليس كقوة دفع.

يا للعار ويا لها من مؤسسة عربية ضعيفة وعديمة الجدوى!

أستاذ جامعي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.