الرئيسية » تونس : ملامح الإستراتيجية الكفيلة بالنجاح في مكافحة الفساد في الفترة القادمة

تونس : ملامح الإستراتيجية الكفيلة بالنجاح في مكافحة الفساد في الفترة القادمة

يجب على الحكومة الجديدة اعتماد مبدأ تفكيك منظومة الفساد انطلاقا من مبدأ تحصين الاقتصاد المنظم ومحاسبة الخارجين عن القانون طبقا لمخالفة الترتيبات المالية سارية المفعول وليس استنادا لإيقافات مشخصنة تحد من مفعول الحرب على الفساد باعتبار أنها تضفي عليها طابع الانتقائية. وهو الخطا الذي سقطت فيه حكومة يوسف الشاهد الحالية.

بقلم فوزي العبيدي

مكافحة الفساد و التصدي للوبيات المتمعّشة من شبكاته يعد من أهم المطالب التي تجد صدى شعبيا واسعا ولكن هذه الحرب لا يمكن ربحها فقط من خلال الشعارات التي ترفع أو الارتجال في أخذ القرارات التي يمكن أن تكون نتائجها عكسية، بل تتطلب قبل كل شيء وضع إستراتيجية واضحة تتضمن الأهداف المرحلية والنهائية لهذه الحرب لأنها ستكون حرب كسر عظام مع لوبيات تمترست وراء أذرع متشابكة لحماية مصالحها من تمويل مالي كبير ونفوذ سياسي يخترق الأحزاب ووفرت لنفسها حاضنة إعلامية متمثلة في قنوات تلفزية و مواقع إلكترونية تدافع عن مصالحها و تكون أداة ضغط و ابتزاز للسلطة الحاكمة.

لا يمكن الانتصار في الحرب على الفساد بدون إستراتيجية واضحة

لا ننسى أن محاولة السيد يوسف الشاهد إطلاق الحرب على الفساد قد تم تعطيل مفاعيلها أو تحجيمها بصفة كبيرة وذلك بحكم عدم وجود إستراتيجية واضحة الأهداف للقضاء على الفساد وخاصة الآليات الناجعة لضرب نسيج معقد من شبكات فساد متغلغلة تقريبا في جميع القطاعات الحيوية للاقتصاد التونسي، ففي سنة 2017 وبالتحديد في تاريخ 23 ماي انطلقت حملة الإيقافات ضد عدد من رموز الفساد في تونس وفتحت العديد من الملفات، وهذا ما يحسب لحكومة الشاهد، ولكن مع الوقت تبين أن هذا الأخير لا يحمل أي إستراتيجية تتضمن تصورا كاملا للخطوات الضرورية التي يجب على حكومته إتباعها وتنفيذها، فقد اقتصر رئيس الحكومة على بعض التصريحات لبعض وسائل الإعلام للحديث عن حملة الإيقافات وقتها ولكن لم تقم الحكومة فعليا بإعداد برنامج واضح يسطّر الأهداف المنشودة على المدى القصير و المتوسط و البعيد لمحاربة الفساد و الآليات المستوجبة لهذه الحرب في كل مرحلة زمنية.

هذا القصور في إعداد إستراتيجية واضحة لمكافحة الفساد منذ سنة 2017 دفع ثمنه غاليا يوسف الشاهد فغياب هذه الإستراتيجية المبنية على برامج تدخّل جعل الحكومة تكون في العديد من الأحيان موضع تناقض وتضارب بين أعضائها على غرار التعامل مع ملف “مارينا قمرت”، حيث نجد من جهة المكلف العام بنزاعات الدولة يقوم برفع دعوة قضائية جزائية وجّه فيها اتهامات بالتلاعب بالمال العام و الاستيلاء على الأملاك العامة ضد الشركاء في “مارينا قمرت”، وهم الرئيس المدير العام كريم ميلاد وسليم شيبوب باعتباره شريك والشركاء القطريين، ولكن في تناقض تام مع هذا التحرك قامت وزارة السياحة بإصدار بيان رسمي يفيد أن ملف الشركة سليم من الناحية القانونية.

نفس الموقف تم تسجيله خلال سعي الحكومة للتثبت والتحقيق في احتمال وجود فساد على مستوى الصفقات العمومية لإنجاز البنية التحتية بينما يخرج وزير التجهيز ليدافع في الإعلام عن مقاول بعينه في تجاوز للتحقيقات الجارية

غياب الإستراتيجية الواضحة لمكافحة الفساد جعل حكومة الشاهد تفتقر إلى الأدوات والآليات الضرورية لضرب هذه العصابات المتمكنة من مفاصل الدولة العميقة و الاقتصاد الوطني بل مع مرور الوقت أصبحت الحكومة هي في موقع الدفاع وهذه الشبكات هي التي تضغط عليها وخاصة على رئيسها يوسف الشاهد من خلال أذرعها الإعلامية وذلك بشيطنة الحكومة وضرب مصداقيتها أمام الشعب التونسي، كما شملت حملات الضغط الجهاز القضائي في محاولة للتأثير على قراراته.

بعد ذلك تم تفعيل لوبيات سياسية لقطع الطريق على يوسف الشاهد في الانتخابات الرئاسية من خلال تدعيم ترشح شخصيات بعينها لضرب حظوظ هذا الأخير في المرور للدور الثاني ليكون عبرة لمن يعتبر من الذين يجرؤون على تهديد مصالحهم المافيوزية، ليجد الشاهد نفسه ضحية عدم وجود إستراتيجية واضحة لمكافحة الفساد حيث مني بهزيمة قاسية في الانتخابات الرئاسية مقابل نجاح العديد من شبكات الفساد والتهريب في إيصال العديد من النواب إلى قبة قصر باردو ليكونوا أذراعتها السياسية في المرحلة المقبلة.

إستراتيجية مبنية على تفكيك منظومة الفساد

لا يخفى على أحد اليوم في تونس أن الفساد أصبح يمثل اقتصادا كاملا ونسيجا مهيكلا استطاع عبر السنوات منذ العهد البائد وسنوات ما بعد الثورة أن يكوّن شبكة أفقية عابرة ومخترقة للمؤسسات السياسية كالبرلمان والأحزاب والإدارات العمومية فأصبحنا أمام اقتصاد منظّم متعثّر ويعاني صعوبات كبيرة نتيجة الأزمة الاقتصادية مقابل اقتصاد الفساد والتهريب في سرعته القصوى ليشكّل معضلة سرطانية تهدّد كيان الدولة.

هذه الكيانات المتنفّذة لا يمكن أن تبقى مكتفة الأيدي أمام أي تحرك تجاهها بل ستحاول بشتى الطرق تعطيل هذا المسار عبر تسميم المناخ الاجتماعي العام كتعطيل الاستثمارات في القطاعات التي تسيطر عليها أو بإثارة أزمات التزويد بالمواد الاستهلاكية الحسّاسة عن طريق الاحتكار والمضاربة أو استعمال الأذرع الإعلامية لهذه اللوبيات لتجييش الشارع وصنع نوع من عدم الاستقرار السياسي لأنه المناخ الوحيد الذي يمكّنها من الإفلات من العقاب.

لهذا على الحكام الجدد وخاصة رئيس الحكومة القادم الانتقال من الفعل السياسي لمحاربة الفساد نحو إستراتيجية تقوم على تفكيك منظومة الفساد وذلك بتفكيك شبكاته مع الأخذ بعين الاعتبار الإرتدادات السلبية لذلك والتي يمكن أن تستغلها هذه اللوبيات كحرب مضادة على الحكومة خاصة في القطاعات التي يعتمد عليها الاقتصاد التونسي من حيث التمويل المالي (بالرغم من فساد مصدره) وتزويد السوق بالحاجيات الأساسية للعائلة التونسية حيث أن إنحصار الإستثمارات بدون سابق إنذار في قطاعات حسّاسة وتراجع التزويد قد يؤدي إلى أزمات اجتماعية غير محسوبة تكون في صالح هذه اللوبيات وهنا نتحدث مثلا على قطاعات مصدرها الأساسي للتزويد بالمواد هو مسالك التجارة الموازية كالمواد الغذائية المهربة و الدخان والمحروقات و النسيج.

ملاحظة هامة نستطيع استخلاصها من التجربة السابقة التي خاضتها حكومة الشاهد في محاربة الفساد وهي اعتمادها على الصلاحيات التي يوفرها قانون الطوارئ فقامت بتوقيف العديد من المهربين وأصحاب الشبهات بالاعتماد على السجل الشخصي لهؤلاء الأفراد فكانت النتيجة أن الغالبية الساحقة قد تم الإفراج عنهم لعدم كفاية الأدلة بعد إجراء التحقيقات لذلك يجب على الحكومة الجديدة اعتماد مبدأ تفكيك منظومة الفساد انطلاقا من مبدأ تحصين الاقتصاد المنظم ومحاسبة الخارجين عن القانون طبقا لمخالفة الترتيبات المالية سارية المفعول وليس استنادا لإيقافات مشخصنة تحد من مفعول هذه الحرب باعتبار أنها تضفي عليها طابع الانتقائية.

هذه الإستراتيجية القائمة على تفكيك منظومة الفساد سوف تجد لها أرضية مناسبة من خلال وجود تشريعات تم سنّها في الأشهر الأخيرة تطبيقا لتوصيات مجموعة العمل المالي (Gafi) و التي تصبّ أغلبها في تتبّع رؤوس الأموال المشبوهة في الداخل و الخارج وحصر إسم المستفيد الحقيقي في أية معاملة تجارية من خلال السجل الوطني للمؤسسات وفي أي معاملة مالية من خلال تفعيل آليات اليقظة البنكية تحت رقابة البنك المركزي التونسي، فما على الحكومة القادمة سوى تفعيل العمل بهذه التشريعات وحسن تنفيذها مع إعطاء الأولية للقطاعات التي لها أثر على سلامة الأمن العام كالقطاع الإعلامي الذي للآن لم يتضح مصدر تمويل العديد من مؤسساته الناشطة كواجهة للوبيات الفساد.

لا نجاح في الحرب على الفساد دون توفير الآليات اللازمة

كثيرا ما نتحدث على ضرورة وجود الإرادة السياسية في محاربة الفساد ولكن الأهم هو كيفية ترجمة هذه الإرادة السياسية على أرض الواقع وهذا لا يكون إلا من خلال توفير الآليات اللازمة لذلك فلا توجد حرب ناجحة إلا متى كانت هذه الآليات مناسبة ومتّسقة مع تطور الأحداث، لذلك على الحكومة القادمة بمعيّة رئيس الجمهورية ومجلس النواب استكمال بناء المؤسسات والهيئات الدستورية لما لها من انعكاس مباشر على تحصين نظام النزاهة الوطني حسب ما تقتضيه المنظمة الدولية للشفافية التي تعنى بمكافحة الفساد وأبرز مثال على ذلك عدم وجود الهيئة العليا الدائمة للاتصال السمعي و البصري والتي فشل البرلمان السابق في اختيار أعضائها فاستكمال بناء هذه الهيئة التعديلية له الأثر الواضح على تنظيم قطاع أصبح له دور كبير في عرقلة الحرب على الفساد.

كذلك من الآليات التي ثبت محدوديتها هي نقص الخبراء المتخصصين في مجال الحوكمة ومكافحة الفساد مما انعكس سلبا على عملية مكافحة الفساد إبّان الحكومة السابقة حيث أصبحت بعض القضايا عالقة في القضاء لمدة سنوات في انتظار تقارير الخبراء في مكافحة غسيل الأموال فقد أصبحت بعض القضايا عديمة الجدوى بفعل العامل الزمني الذي كلما طال صعبت عملية إثبات وتتبع العمليات المالية المشبوهة لغسيل الأموال، لذلك كانت أغلب المنظمات العالمية المعنية بمجال مكافحة الفساد كمجموعة التحاليل المالية (Gafi) ومنظمة التعاون و التنمية الإقتصادية (OCDE) ومنظمة الشفافية الدولية تعتبر أن أهم استثمار للتنمية المستديمة خاصة في البلدان النامية هو الاستثمار المادي والبشري في مكافحة الفساد.

شارك رأيك

Your email address will not be published.