الرئيسية » بِمناسبة اليوم الوطني لحرية الانترنت : شبح عمار 404 مازال يُخيّم على الانترنت

بِمناسبة اليوم الوطني لحرية الانترنت : شبح عمار 404 مازال يُخيّم على الانترنت

زهير اليحياوي.

بِالأمْسِ القريبِ كان سيفُ السّلطةِ المسْلولِ. اليوم تسْكنُ حركتُه. أو رُبما يكون فِي حالةِ سُباتٍ شتويٍّ٬ أو في وضْع التّرصُدِ. إِنّه “عمار 404” البتّارُ٬ الّذي نستعيدُ ذِكرى ضرباته المُؤذية بِمُناسبةِ إحْياءِ اليوم الوطني لِحريةِ الانترنت المُوافق لِيوم 13 مارس٬ و الّتي كان زهير اليحياوي ضحِيتُها الأبرز.

بقلم فتحي الهمامي *

قُبيل الثورة٬ نفّذ النظام السابق على الانترنت أشْكالا مُختلِفة من الرقابةِ و التتبعِ والحجْبِ. و كان “عمار 404” سِلاحُه الأبرْز في تلك السياسة التعسفيّة٬ لكن ذلك لمْ يمنع أنصار الحريّة وقْتها من فرْضِ موادٍ تُعبِّر عن الرأي المُخالِف٬ و لوْ في حدودٍ ضيّقة. بل أمكن إشراك الفضاء الافْتراضِي في فعاليات الثورة التونسية٬ الذي كان له إسْهاما عظِيما في إيصالِ صُورِها و صوْتِها.

من هو “عمار 404” سيء الذكر؟

يُمكن القول أن الوكالة التونسية للإنترنت٬ بِصِفتها المؤسسة المُتحكمة في المفاصل الأساسية للإنترنت٬ هي آلة الحرب. إذ كان للوكالة الْيدُ الطُّولى (1) في إنْفاذِ سياسة بن علي القائِمةِ على مُحاصرة حُرية الرأي و التعبير على الانترنت٬ و تقييد النفاذ إلى المعلومة. فـ «عمار 404″ (2) كان مِقص الرقيب أو قُلْ ذلك الجلاد الفظّ الّذي كان يفْتِك بِالكلمة الحرّة و يُعطّل الإبحار الحرِّ على الشبكة العنكبوتية. و قد اُستخدمت برامج و أنظمة مُتطورة و مُعقدة٬ لِمُمارسة التحكُّمِ٬ كان مِن ضِمْنِ تقنياتِها׃ الغربلة٬ إزالة و حذف مواد منشورة٬ و حجب تطبيقات و مواقع بِأكملها٬ وغيره كثير.

لِهذا لا جدال أنّ جُهودا جمّة سُخِرت لِمراقبةِ الإنترنت و التحكّم بِمحتوياتِها٬ هذا فضلا عن جهود أمنية و قضائية أفْضت إلى اعتقالِ مدونين و صحفيين ناشطين على الإنترنت٬ بِتُهم مُلفقة كإزعاجِ السّلطات والتّهجّم عليْها٬ و بِالمثْلِ طال العسْفُ عددا من مُستخدمي الإنترنت العاديين.

و لا ننْسى بِالطبعِ إسْهام التُرسانة القانونية الخانقة لِلحرية٬ في إحكام قبْضةِ الرقابة على الفضاء الالكتروني.

“عمار 404” وُرِيٙ التُّراب بعد الثورة !؟

ليس هُنالك من شكٍ أن تغيّرا كُليّا طرأ على الانترنت إثْر الثورة التونسية. فالقيودِ الّتِي كانت مفروضةٍ عليها قد تحطّمت بِشكلٍ كبيرٍ بعد 14 جانفي 2011. و تبدل حالُ الانترنت من الاختناقِ إلى الحريّة شِبْهِ الكامِلة׃ حريّة النفاذ٬ و حريّة الإبْحارِ٬ و حريّة التعبير.

و لكُم في الفايسبوك مِثالا جيّدا إذْ تحوّل إلى مِثْلِ حديقة هايد بارك (Hyde Park) اللندنيّة׃ ساحةٌ عامةٌ منزوعةِ
الأغلال٬ أو قُلْ برلمان مفتوح على الهواءِ.

ومُواكبةٍ لِهذه الأجواءِ أعلنتْ السلطة- من جِهتها- عن موْتِ و دفْنِ رمْزِ القمْعِ٬ سيّء الذِكرِ”عمار404″. و عن اسْتِحالةِ العودةِ إلى الوراءِ. وقالت أنّ تونس بانْخرِاطِها في ائْتلاف Freedom Online تُبيّنُ تمسُكِها بِشبكةٍ حرّةٍ و مفتوحةٍ (3) .

و بِالمثلِ تأثّر الدستور الجديد بأجواءِ الحرية الوليدة. فأقرّ في متْنِهِ بِحرية الرأي و الفكر و الإعلام و النشر. و نبّه على أنّه لا يجوز مُمارسة رقابة مُسبقة على هذه الحريات (الفصل31). واعترف بِالحقِ في النفاذِ إلى المعلومةِ والحق في النفاذِ إلى شبكاتِ الاتصالِ (الفصل32).

و هو ما يُعد توافُقا مع مضامين المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية المصادق عليه من قبل تونس و القائلة: أن لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة٬ والحق في حرية التعبير٬ ويشملُ هذا الحق حريته في التماسِ مُختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار لِلْحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها. .

و السؤال هنا׃ إذا كان “عمار 404” قد وافاهُ الأجلُ – فِعلا- عند قدوم الثورة٬ و وُرِيٙ التُّراب كما قِيل ! كيف نُفسر- إذن- تواصُلِ بعْضِ المُلاحقات الأمنية و القضائية – بعد الثورة- لِناشطين و مُدوِنين بِسببِ منشوراتهم؟ إذ سُجن أكثر من ناشِطٌ بسبب مُدونة٬ ووُجِهت إلى مُدونين تُهما جنائية بِسببِ تعلِيقاتٍ على مِنصات التواصل الاجتماعي (4) . ألا تدل الرقابة على أثر الرقيب ؟ و أنّ الرّقيب الطاغية مازال حياّ يُرزق٬ و إنْ خفّ نشاطِه و تبدّل ثوبه؟

شبح “عمار 404” مازال يُخيّم على الانترنت؟

و السؤال عن الرقابة وعن وجودِها يُؤدي إلى الاسْتِفسار عن خِصمِها اللّدود: الحِماية٬ بِصفتِها حارِسةُ و صائِنةُ الحرية ׃ كيف نحْمِي – إذن – الحرية المُكتسبة على الانْترنت من الاستنقاصِ٬ ومن الاسْتخدامِ المُسيء لِلغيرِ و من التّوظيفِ الإجرامِي؟

ما من شكٍ أنّ الحرية – الناشئة خاصّة – تحتاج إلى الرعاية٬ وإلى الذوْدِ عنها من الرقابة٬ ذات الطابع السياسي أو المدفوعة بِجُملة القِيٙم.

و قد أوجب الدستور على الدولة حِماية الحق في الحرية٬ و بالمثْلِ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. ولكن يمكن القول أنّ حرية التعبير مازالت مُرتهنة إلى قانون منقوص من حيث توفير الحماية لها.

فقِسْمٌ من المنظومة التشريعية والترتيبية أُستخدم لِتجريم حرية الرأي و التعبير على الانترنت. وأبلغُ مثالا على ذلك تفعيل الفصل 128 الزجري من المجلة الجزائية في المُحاكمات السابقة الذِكر٬ و القائل׃ يُعاقب بِالسجن مدة عامين وبخطية قدرها 120 دينارا كل من ينسب لموظف عمومي أو شبهه بخطب لدى العموم أو عن طريق الصحافة أو غير ذلك من وسائل الإشهار أمورا غير قانونية مُتعلقة بِوظيفته دون أن يُدلي بما يثبت صحة ذلك”.

وقسم آخر من المنظومة القانونية كان شُرّع في العهد السابق٬ و وُظّف في الرقابةِ مازال ساريًا المفعولِ أي: أحكام المرسوم رقم 97-501 بتاريخ 14 مارس 1997 المتعلق بِتقديم خدمات الاتصالات (مرسوم الاتصالات)٬ والقوانين الصادرة بتاريخ 22 مارس 1997 المُحدِدة لِمواصفات و شروط بناء و تشغيل خدمة الاتصالات (الضوابط القانونية للإنترنت).

فكِلا القانونين يخرق مبادئ القانون الدولي و أحكام الدستور٬ لأنهما ينظمان الرقابة التعسفية على الانترنت. لهذا دعت منظمة المادة 19 إلى (5) إلى:

1. حذف القوانين المنظمة للمسؤولية الواقعة على مقدمي خدمة الإنترنت عن المحتويات العائدة والمملوكة لطرف ثالث في مرسوم الاتصالات (المادة 1 و 14) و الضوابط القانونية للإنترنت ( المادة 9) و استبدالها بقوانين تضمن حصانة مقدمي الخدمة٬ من أي مسؤولية عن أنشطة مستخدمي أو أي طرف ثالث.

2. منع الوسطاء (مقدمي الخدمة) من مراقبة أي محتويات يتم تبادلها عبر شبكة الإنترنت التابعة لمقدم الخدمة.

3. تعديل القانون بحيث يقضي بأن المحكمة وحدها هي التي لها الحق بإصدار مذكرات حجب الخدمة أو مراقبتها أو حذف بعض محتوياتها و يجب أن يكون قرار المحكمة هذا مبنيا أيضاً على عنصر الضرورة القصوى و التناسبية في ردة الفعل التي يسمح بها القانون.

4. حذف المادة 11 من قوانين الإنترنت و التي تمنع استخدام تقنيات التشفير بدون رخصة مسبقة من السلطات الحكومية.

5. حذف المادة 8 من قوانين الإنترنت التي تفرض على مقدمي خدمة الإنترنت تسليم قوائم بأسماء المشتركين في الخدمة و بشكل شهري و منتظم.

6. إلغاء المادة 7 من مرسوم الاتصالات و الذي يفرض على مقدمي خدمة الإنترنت الحصول على رخصة من وزارة الاتصالات.

7. عدم تطبيق قوانين على المدونين و ممارسي صحافة المواطنة تختلف عن تلك القوانين المدنية و الجنائية المطبقة على المستخدمين للطرق التقليدية في النشر و التدوين.

و قسم ثالث من المنظومة القانونية (مستجد)׃ الأمر عدد 4506 المؤرخ في 6 نوفمبر 2013 المتعلق بإحداث مؤسسة عمومية تحمل اسم ” الوكالة الفنية للاتصالات “٬ والتي خُصص لها مهمة تلقي ومعالجة أذون البحث ومعاينة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال الصادرة عن السلطة القضائية.

و كان أثار حفيظة المجتمع المدني المعني بحرية التعبير بما أنّ مقتضيات هذا الأمر تضع منظومة رقابة على الانترنت تُشبه تلك التي كانت تُسند إلى الوكالة التونسية للانترنت׃ “عمار 404” جديد !

فهذا القانون لا يُحدد طبيعة “جرائم أنظمة المعلومات والاتصال” التي يُمكن أن تشمل بعض أشكال حريّة الرأي والتعبير٬ إضافة إلى تبعية الوكالة الفنية للاتصالات إلى السلطة التنفيذية ترتيبيا و ماليا دون أن تتمتع السلطة القضائية بالرقابة الفعلية عليها (6).

عمار “404” يحْمِي الانترنت من الاستخدام المُسيء لِلْغيْرِ و منْ التوظيف الإجرامِي !؟

غنيّ على البيان أن الحرية (في جانبها الاجتماعي) ليست مطلقة٬ و بالمثل حرية التعبير على الانترنت ليست مطلقة. و بالتالي من حق الفرد و المجتمع أن تتم حمايتهم من التوظيف الإجرامي للأنترنت ومن ذلك الإرهاب٬ ومن الاستخدام المسيء المرتبط بوصم الآخر أو التعدي على الحياة الشخصية٬ و غيره.

و الحماية تقتضي شكل من الرقابة هي بالضد لِمنطق عمار “404” التعسفي٬ فهي ضوابط لا تنال من جوهر الحرية٬ و لا توضع إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية٬ مع احترام التناسب بين هذه الضوابط و موجباتها٬ و تتكفل الهيئات القضائية بمراقبة تلك الرقابة حماية لحقوق و الحريات من أي انتهاك (7).

و قد اعتبر القانون الدولي أن الاستثناءات الوحيدة التي تستوجب على الدول تحريمها من أنماط التعبير هي: استخدام الأطفال في المواد ذات الطابع الجنسي٬ الدعوة و التحريض على ارتكاب مذابح التطهير٬ خطاب الكراهية٬ الدعوة والتحريض على الأعمال الإرهابية.

و توقيّا من إساءة استخدام هذه القوانين أو استغلالها٬ يؤكد على أهمية تحديد و توضيح تلك الأنماط من التعبير المجرّمة.

و قد أشار المبعوث الخاص للأمم المتحدة ٬ أن الاختلاف في أنواع المواد المنشورة يستدعي ردود قانونية وتقنية مختلفة أيضاً. وهي ثلاث أنماط مختلفة من التعبير فيما يخص القوانين المتعلقة بالإنترنت: النوع من التعبير الذي يعتبر خرقاً للقانون الدولي و يمكن محاكمته بحكم الجريمة٬ التعبير الذي لا يعاقب عليه الشخص كجرم جنائي و لكن يسمح بفرض القيود أو المقاضاة المدنية٬ التعبير الذي لا يخضع لقيود جنائية أو مدنية و لكن يمكن أن يسبب القلق في إطار التسامح و المدنية و احترام الآخرين.

و معالجة هذا النوع من التعبير (الأخير) يستدعي بالطبع النشر ثقافة حقوق الإنسان و التدريب للأخذ بمبدأ الرقابة الذاتية كطريقة أكثر جدوى لِمعالجة أشكال التعبير على الانترنت المرتبطة بخطاب الكراهية و الوصم.

لهذا يجب إدخال التعديلات اللازمة على المنظومة القانونية التونسية بحيث تكون متلائمة مع مبادئ الدستور ومع المعايير الدولية٬ و بشكل يجعل السلطة القضائية (أو الهيئات التعديلية المستقلة) هي الجهة الوحيدة المخول لها الإذن بحجب أو سحب المواقع أو الصفحات كليا أو جزئيا مع ضرورة التقيد بمبدئي الضرورة والتناسب.

والغاية كل الغاية أن تظل حرية التعبير و حرية تبادل المعلومات حقوق غير قابلة للتراجع لأنها تُعدّ من الشروط الضرورية لتحقيق مبادئ الشفافية و المحاسبية و التي بِدورها تعتبر ضرورة أساسية للدفع بحقوق الإنسان قدماً ولبناء المجتمع الديمقراطي.

* عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان.

هوامش :

1-يظهر عندما يطال مقص الرقابة موقع مخالف في الرأي لهذا أطلق مدونون تسمية عمار 404 على الرقيب 404 not found1-
2- أنظر الحوار الذي أجرته لابراس يوم 4 مارس 2020 مع رئيس مدير عام الوكالة التونسية للانترنت بخصوص دورها السابق في الرقابة
3 – تصريح منجي مرزوق وزير تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات يوم 7 سبتمبر 2012
4- مثلا صدور حكم بالسجن في فيفري 2019 في حق المدونة فضيلة بلحاج و قد أوقفت قبل ذلك يومين على ذمة التحقيق
Article19.ORG -5
RSF communiqué du 28/11/2013 -6
7 – تقرير المبعوث الخاص للأمم المتحدة لحق التعبير بتاريخ 10 أوت 2011

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.