الرئيسية » تونس : حول غياب القانون وتآكل إرادة الدولة

تونس : حول غياب القانون وتآكل إرادة الدولة

في هذا الوقت الحرج من تاريخ تونس ودون إنكار للحقائق يتوجّب علينا اليوم في تونس الوعي بأنّ التوجّه الذي يريده الشعب هو العدالة، وأن لا يكون أحدًا فوق العدالة. كان لابدّ بعد “حقبة بن علي”، أن يكون هناك تحوّل إيجابي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع. وكان لابدّ من إصلاح يهدف تحقيق مستوى مادّي أفضل وإقامة العدل. للأسف لازال الحديث يتزايد عن فشل الدولة في تحقيق الوعود التي تعهّدت بها، فالقضايا ظلّت متفاقمة عل حالها.

بقلم العقيد محسن بن عيسى *

العدل كما ينبغي أن يكون

يبدو أن هذه الضجّة التي نتابعها في الداخل مع مساندة مشبوهة من الخارج حول وضع أحد قيادي حركة النهضة في الإقامة الجبرية (وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري)، أخذت حبرها من دواة العقل المُغلق، والمواقف الشخصية والحزبية أكثر منه واقع الأمن الوطني والتحليل السياسي للوضع الراهن. هناك فعلا تجنّ على العقل المنطقي. لا أريد الدخول في تفاصيل الأبحاث، فالقضية على ما يبدو فيها ارتباط بالفساد والإرهاب وتجاوز في الممارسة السياسية-السيادية.

نعم، لقد اختار الشعب الديمقراطية والكرامة والحرية، ولكن لا يمكن استغلال هذه المساحات دون إعلاء القانون، وبالتالي لا يمكن لأيّ كان تجاوز السلطة. نستطيع إلقاء نظرة سريعة على العشرية المنقضية لتتبيّن لنا أخطاء هذه المرحلة وأبرزها التركيز على قضاء مظاهر النظام السابق دون التقدم في جانب إرساء العدالة السياسية والاجتماعية. لقد كان للتغيير الجذري المتسارع في كل الأجهزة الرسمية وخاصة الأمنية تداعيات أدّت إلى شبه انهيار الدولة. هكذا عاشت تونس تجربة ما بعد 2011 ولهذه الأسباب وغيرها لازلنا ننشد الاستقرار والتنمية دون جدوى.

لم يكن الخوف من الإسلام السياسي ومشتقاته موقفا تونسيا صرفا، فنحن أمام فكر قائم في عدة دول عربية كانت ولا زالت في مواجهة مع هذه الظاهرة. لقد عرف الشعب التونسي اليوم هذه التيارات ورموزها، ويبدو أنّ ثقل الملفات والشبهات أسقطت الأقنعة وأذهبت هالة القداسة المفتعلة التي يحاولون تكريسها.

البلاد أمام محكّ ومُنحنى تاريخي، إما أن تختار “العدل” طريق الخلاص وتبدأ ببناء العودة، عودة المؤسات للعمل دون خوف من المضايقات، وتسريع إصلاح أجهزة الدولة قولا وفعلا، وإما أن نستسلم لضياع هيبة الدولة وبالتالي ترك الشعب فريسة لهؤلاء. لم يكن الجدل في الساحة السياسية حول الدستور والنظام فحسب فمواضيع الاختلاف كثيرة ومتعدّدة.

الحقيقة دون تهويل أو تهوين

أتابع أحيانا وبحكم الظرف بعض الحوارات التلفزية والإذاعية حول “المشهد السياسي” وأقف بحكم تكويني وخبرتي على محاولات دس السم في العسل. الحقيقة أن بعض الوجوه الجديدة عاثت في البلاد فسادًا وتخريبا. لقد أطاحوا بالقوانين، وتجاوزوا الخطوط الحمراء، وسعوا الى إحلال الحزب محل الدولة. ولكن ستبقى تونس عصية عليهم بتاريخها العريق وحضارتها وثقلها العلمي وشرفائها.

كيف نذكر أنفسنا بالأمور التي علينا فعلها؟ البلاد دخلت مرحلة جديدة بعد 25-جويلية، مرحلة يرفض فيها الشعب القبول بالأمر الواقع، ويحث على استرداد الدولة وإنهاء ارتهانها لإرادات معينة. الواقع يتعارض اليوم مع “فكر الجماعة المستورد” ولزوم تواجد تيار ديني معارض للسلطة الحاكمة، يتبادل معها المواقع. لا حاجة اليوم أيضا للبلاد للحفاظ على علاقة موزونة بين الحكم والمعارضة المختارة في إطار شبكة مصالح.

لقد أبرزت الأيام تفاصيل وخفايا مواقف القوى المتربصة بتونس والتي استغلت الضعف الاقتصادي والأمني لتقدّم لنا البديل وتتصدر على ضوء ذلك هذه التيارات وتتموقع على الساحة، لا سيما وأنها تطلق شعارات تتحمس لها الفئات الضعيفة. لقد كان توظيف الفقر أبرز عوامل ظهور هذه الأحزاب وخارطة المناطق التي برزوا فيها تؤكد ذلك. من المؤسف أن الفئات التي انتخبتهم لا زالت وحدها تدفع الثمن وهي التي تزداد فقرا كل يوم، وتزداد رُعبا بسبب غياب الأمن رغم المجهودات الجارية.

زعزعة استقرار الدول أدى إلى “خلق دول فاشلة”

هذه نتائج مخطط “الفوضى الخلاقة” هذا المفهوم المشبوه الذي طرحته كونداليزا رايس لتحقيق الديمقراطية في العالم العربي بمساعدة تيارات متعطشة للسلطة. إنّ هذا المفهوم يعني “التخلّي عن مفاهيم الأمن والاستقرار”، وترك الاضطرابات تسيطر، حتى ولو أدّى ذلك إلى سيادة الفوضى التي ترى من وجهة نظهرها أنها ستنتج في النهاية أوضاعا أفضل من الأوضاع السائدة. ووفقا لهذا المفهوم فإن الفوضى تعني انتفاء السلطة ومؤسساتها، و بالتالي جعل الدولة المستهدفة بلا رئاسة فعلية.

هذه صورة لزعزعة استقرار الدول بهدف “خلق دول فاشلة” وأول ملامحها هو تواجد أماكن ظل داخل الدولة خارجة عن السيطرة والسيادة. هذه الدول لا تتلاشى، بل تصبح دولاً للجريمة، والقوميات (الفكر القبلي) ليتم التدخل والتحكم فيها. يبدو أننا غير بعيدين عن هذا التصنيف؟

نحن نعيش حربا مع الإرهاب والتيارات الموالية له، حربا خارج العرف التقليدي النمطي، وهي من الجيل الرابع حيث يتم إنهاك وتآكل إرادة الدولة وتجييش الشارع، من أجل إرغامنا على تنفيذ إرادة دول أخرى.

* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.

شارك رأيك

Your email address will not be published.